ابن خلدون أرسطو العرب ومؤسس علم الاجتماع / بقلم عبد الهادي محيسن/الشراع
مجلة الشراع 8 تشرين ثاني 2021
عندما أكمل ابن خلدون كتابة المقدمة شعر بأنه اسس علما جديدا أطلق عليه “علم العمران” وقد صار فرحا بهذا العلم فخورا به يريد أن يباهي غيره من المؤلفين ، ومما تجدر الإشارة إليه أن تأسيس العلوم الجديدة لم يكن بالأمر النادر في الإسلام فقد رأينا المفكرين المسلمين منذ بداية العهد العباسي يؤسسون علوما مختلفة .
كما فعل الفراهيدي في علم العروض وسيبويه في علم النحو وأبو يوسف في علم الخراج والشافعي في علم أصول الفقه والأشعري في علم الكلام ، والظاهر أن ابن خلدون أراد أن يجاري هؤلاء فيؤسس هو أيضا علما ينمو من بعده ، لقد كان ابن خلدون يتشبه بأرسطو بصفة خاصة فقد رأى ما كان لمنطق أرسطو من منزلة رفيعة لدى المفكرين فظن أن علمه الجديد ستكون له نفس تلك المنزلة .
يشيرابن خلدون في مقدمته الى أن مسائل المنطق كانت معروفة قبل أرسطو ولكنها كانت متفرقة غير مهذبة فجاء أرسطو يرتبها ويهذبها ويؤلف علما قائما بذاته ولذلك سمي أرسطو بالمعلم الأول ، ويذكر ابن خلدون أن الفلاسفة وأهل العلوم قبله جاؤوا بمسائل من نوع تلك التي بحثها في مقدمته ، ولكنهم أوردوها في كتبهم متفرقة وغير مقصورة لذاتها ، أما هو فقد جعلها أصلا لعلمه الجديد ففصل إجمالها واستوفى بيانها وميزها عن غيرها من مسائل العلوم الأخرى .
حاول مؤلفون قليلون أن يقتبسوا شيئا من آراء ابن خلدون أو يتاثروا بها في مؤلفاتهم وكان معظم هؤلاء ممن تتلمذوا على يديه أو عاصروه أو عاشوا بعده ، كالأصبحي الذي نقل عن مقدمة ابن خلدون الشيء الكثير أما المقريزي فكان تلميذا لإبن خلدون معجبا به وقد نحى منحاه في كتابه “إغاثة الأمة بكشف الهمة .
اهتم الأتراك العثمانيين بمقدمة ابن خلدون واقتبسوا منها منذ القرن السابع عشر وقد ظهرت ترجمة لها باللغة التركية قبل ترجمة الأوروبيين لها بقرن كامل ، ويقول الأستاذ ساطع الحصري في تفسير ذلك بأن الفتوحات العظيمة التي قامت بها الدولة العثمانية استلزمت ظهور سلسلة من من المؤرخين وكان هؤلاء يقرؤون المؤلفات العربية بحكم الثقافة التي كانت سائدة في ذلك الوقت فكان من الطبيعي أن يطلعوا عليها ويعجبوا بها إعجابا شديدا .
لم يعرف الأوروبيون عن ابن خلدون شيئا في العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة ، فقد كانوا يعيشون آنذاك في مثل المرحلة الفكرية التي عاش فيها أكثر الناس في جميع الأقطار ، لهذا انصّب اهتمامهم على دراسة ابن سينا وابن طفيل وابن رشد … ولهذا كان أقدم من لفت نظر الأوروبيين الى مقدمة ابن خلدون مستشرق فرنسي إسمه دربلو فقد نشر في مؤلفه “المكتبة الشرقية” عام 1697 مقالا يتضمن بعض المعلومات عن ابن خلدون ومقدمته .
لم يبدأ الاهتمام الجدي بإبن خلدون في أوروبا إلا في أوائل القرن التاسع عشر وكان أول من اهتم به ونوه بقيمته العلمية شولتز الألماني فقد نشر في العام 1812 رسالة بالألمانية أشاد فيها بإبن خلدون وأطلق عليه إسم “مونتسكيو العرب” ثم نشر في العام 1822 مقالا بالفرنسية في المجلة الآسيوية كشف فيها عن أصالة بحوث ابن خلدون وذهب الى أنه لا يكاد يوجد بين مؤلفات الشرق ما يستحق أن يترجم ترجمةكاملة كما تستحق مقدمة ابن خلدون .
كان للفرنسيين القسط الأوفى من الاهتمام بالعلم الجديد فقد ظهرت في العام 1868 ترجمة كاملة للمقدمة بثلاث مجلدات وفيها تمهيد طويل للتعريف بمؤلفها وشرح بعض عباراتها وقد قام بهذا العمل المستشرق دوسلان مما كان له الأثر الكبير في إثارة الاهتمام والإعجاب بإبن خلدون في فرنسا بوجه خاص وأوربا بوجه عام .
ومن العوامل التي جعلت الفرنسيين يهتمون قبل غيرهم بإبن خلدون هو أن فرنسا كانت في ذلك الحين تحتل الجزائر وتطمع بالسيطرة على بقية بلدان المغرب العربي ولما كانت مقدمة ابن خلدون تقدم أول بحث مسهب عن تاريخ المغرب ووصفا لمجتمعه فلا غرابة في ذلك كونهم أرادوا أن يكتشفوا الوسيلة التي يسيطرون بها على تلك البلاد .
يضاف الى أن علم الاجتماع الحديث أخذت بوادره تظهر في فرنسا في ذلك الحين حيث أخرج العالم الفرنسي أوغست كونت كتابا ابتكر فيه إسما لعلم الإجتماع “سوسيولجي” ولفت الأنظار الى أهمية هذا العلم والى وجوب البحث فيه وتنميته .
لم يبدأ الإهتمام بإبن خلدون في البلاد العربية إلا في أواخر القرن التاسع عشر وذلك من باب التقليد للاوروبيين بعدما رأوا إعجابهم به إعجابا كبيرا ويترجمون مقدمته الى لغاتهم … والحقيقة أن لا لوم عليهم لأنهم كانوا في ذلك الوقت يعيشون بأفكارهم وكأنهم في نفس المرحلة التي كان يعيش فيها ابن خلدون أي ماقبل خمسة قرون من التخلف لسوء الحظ .
عبد الهادي محيسن …. كاتب وباحث .
