الخدمات الاعلامية

كتب شاعر فلسطين الاديب الكبير الاستاذ مروان الخطيب / عِندما لا تموتُ القصيدة “لا تُصالِحْ!”…نموذجاً

في رِحابِ الأدبِ، وفي الشِّعرِ خُصوصاً، تَصعدُ إلى خوافقِنا وأرواعِنا أبياتٌ، أو مقاطعُ، أو قصائدُ، وكأنَّها متفلِّتةٌ من دائرةِ الزَّمانِ والمكان، ومُتَجَلِّيةٌ في مراقي الجذبِ والخُلود والبقاءِ والذَّوبان.

ولعلَّ القارىءَ قصيدة “لا تُصالحْ” للشَّاعرِ المِصريِّ أمل دنقل، يَقَعُ على تلكَ المعاني شامخةً وأليقةً في هذا الأثرِ الأدبيِّ الصَّارخِ، والمُشْرفِ على أبجديَّةِ الدَّيمومةِ والانسراحِ الأبيِّ، رُغمَ مُضيِّ أكثرَ من أربعينَ سَنةً على نزفِها من الوجعِ النَّابتِ في أعماقِ قائلها وشاعرِها، إثرَ الزيارةِ المشؤومةِ لفلسطينَ المُحتَلَّةِ التي قامَ بها الرَّئيسُ المصريُّ السَّابق أنور السَّادات، والتي مَهَّدتْ لأوَّلِ اتفاقاتِ الذُّلِ والخيانةِ في كامب ديفيد سنة 1979م.

” لا تصالحْ!/ ولو منحوك الذهبْ / أترى حين أفقأ عينيكَ/ ثم أثبتُ جوهرتين مكانهما… هل ترى..؟”.

لقد استهلَّ أمل دنقل قصيدتَهَ-الملحمة”لا تُصالح”، بصيغةٍ طلبيَّةٍ إنشائيَّةٍ، وجعلَ مطلعَ القصيدِ رسالةً سياسيَّةً صارخةً، تحملُ مضمونَ رفضِ الصُّلحِ معَ العدو الغاصبِ المُحتَلِّ،ثُمَّ بيَّنَ شاعرُنا الرُّؤيويُّ الحَاذقُ والفطينُ، أنَّ مالَ الدُّنيا، كُلَّ مالِ الدُّنيا وذَهَبِها، لن يكونَ سبيلاً إلى الشُّعورِ بالوجودِ والأمانِ والسَّلام، بل إنَّ الخطيئةَ الكُبرى، لَتَكْمُنُ في الإذعانِ للغاصبِ ومُصالحتِهِ على غيرِ وجهِ الحقِّ، وفي الخُضوعِ لمشيئتِهِ القاهرةِ والمُستَتْبَعَةِ لِمشيئةِ المُسْتَعمِرِ المُتَحَكِّمِ بِقيادةِ أُمَّتِنا المَنكوبةِ منذُ ضياعِ وحدتِها وهدمِ دولتِها الجامعةِ لِكُلِّ أعراقِها ونِطافِها.

والمُدقِّقُ في عِبارةِ (…أفقأ عينيك)، يدركُ مدى قوَّةِ المعنى الذي نُشِدَ من شاعرنا، فالفعِلُ “فَقَأَ” يحملُ دِلالةَ الإخصاءِ، وكأنِّي بأمل دنقل، يرى غيابَ وانقطاعَ سُلالةِ العِزِّ والمَجد بالذهابِ إلى الصُّلحِ مع العدوِّ المُحتلِّ الغاصب. ولعلَّ هذه الرُّؤيا من شاعرنا، تَحملُ أيضاً مضمونَ الاستشرافِ السِّياسيِّ الفِكريِّ، حينَ نقفُ على طِباعِ وسيكولوجيَّةِ المَكرِ والخِداعِ المُنْغَرِسَينِ في الأداءِ اليَهوديِّ!.

ويُؤكِّدُ صاحبُنا على سلبيَّةِ ما ذهبَ إليهِ المُصالِحُ لِعَدوِّهِ(السَّادات)، من حيثُ الصُّورُ القَتيمةُ في التَّدنِّي والذُّبُولِ والسُّقوط، مُظْهِرَاً أنَّهُ بعدَ العَمى، لنْ تفيدَ كلُّ لآلىءِ الأرضِ إذا وُضِعَتْ في محجرِ العين لِجلبِ النُّورِ إليها، وهذه حالُ من سارَ في غيرِ سبيلِ مقاومةِ ومُجاهدةِ السَّالبينَ لأرضهِ وحُقوقه. وهُنا نلمسُ عُمقَ ورحابةِ الصُّورةِ الشِّعريَّةِ التي جَمَّلَتِ النَّصَ بالألقِ الآسرِ، ونفحتْهُ بشفيفِ الرُّؤى السِّياسيَّةِ، لِيَغدوَ في قابلِ الأيامِ مَضْربَ المثلِ والحِكمةِ في صدقِ الرُّؤيَّا الحَدْسيَّةِ عندَ شاعرٍ أصيلٍ ومُلْتَزم كَ أمل دنقل…!.

ويُتابعُ صاحبُنا الثابتُ على نشدانِ الحقِّ كرسوخِ الجبالِ في الأرض، فيقول: “…،لا تصالحْ… ولا تتوخَّ الهرب. لا تصالح على الدم… حتى بدم! لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ، أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدٌ… سيفها كان لك/ بيدٍ سيفها أثْكَلك؟”.

نرى إلحاحَ شاعرِنا وتِكرارَهُ صيغةَ (لا تُصالحْ)، في مدى القصيدةِ مَجالاً لتأكيدِ الثَّباتِ على عدمِ مُصالحةِ العدوِّ ومُسالمتِه. والمُدقِّقُ في تحرِّيهِ هذا الأمر، يعرفُ أنَّ المدلولَ السياسيَّ لتلكَ العِبارةِ يعني عدمَ مُباشرةِ المُحتلِّ بأيِّ وجهٍ من وجوهِ الصُّلحِ، بل يدركُ أنَّ مُطلقَ مواربةٍ للتَّواصلِ معَ الغاصبِ، هي لونٌ من ألوانِ الصُّلحِ والاعترافِ بوجودِه، لذا لمْ يَقُلْ” لا تُهادِنْ” ولم يَقُلْ “لا تُطَبِّعْ”، بل كانَ صريحاً ورؤيويَّاً في تعبيرِهِ حينَ كرَّرَ مُثَبِّتاً بِ”لا تُصالحْ” انعدامَ وجودِ وقُبولِ أيَّةِ صورةٍ من صورِ التَّواصلِ السِّلميِّ مع هذا المُعْتَدي الغاصبِ والمُحتل!.

ويُوجِّهُ أمل دنقل البوصلة إلى النحوِ الصَّحيح، فهذا العدو لا يُمكنُ لنا إلَّا أنْ نكونَ معَهُ في الصِّراعِ الذي يُعيدُ الحقَّ إلى أهليه، والأمورَ إلى نِصابِها التي كانتْ عليهِ قبلَ الاحتلالِ، ولا يجوزُ هربُ المُقاومينَ والمُجاهدينَ من ساحاتِ القتالِ والجهاد إلى أيِّ ارتهانٍ سياسيٍّ هابطٍ وساقط، فايُّ هُروبٍ يُعَدُّ خِيانةً، ومُقَدِّمةً للاعترافِ بشرعيَّةِ وجُودِه. من هُنا يُتابعُ التَّأكيدَ على ذلكَ بقولِهِ” لا تصالح على الدم… حتى بدم! لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ، أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟!”.

هذا التَّفصيلُ الذي لا يُملُّ من شاعرِنا المُقاومِ والمُلتَزِمِ لَيُؤكِّدُ مرَّةً ثانيةً وسابعةً، أنَّ هذا الجسمَ الغاصبَ جسمٌ غريبٌ، ويحملُ جيناتِ التَّعديِّ والمكرِ، ولا يُمكنُ أنْ يصبحَ ذاتَ يومٍ كجسمِ الأخِ الذي يتماهى قلباً ونبضاً مع أخيهِ ووجعِهِ وفرحِهِ، ومَعَ أملِهِ وحُلُمِه، وبالتالي، لا يكونُ أمامَنا من خياراتٍ مع السَّالبينَ المُعْتَدين، والغاصبينَ المُحْتَلِّين، إلَّا أنْ نرفعَ الصَّوتَ والسَّيفَ عَالِيَين، في آفاقِ الكفاحِ والمُقاومةِ والجِهاد، شاهِرينَ ما خَتَمَ به أمل دنقل ملحمتَهُ، فنقولُ مَعَهُ ونُرَدِّدُ:

” لا تصالحْ/ ولو وقفتْ ضدَّ سيفك كل الشيوخْ/ والرجال التي ملأتها الشروخْ/ هؤلاء الذين يحبون طعم الثريدْ/ وامتطاء العبيدْ/ هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم/ وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخْ/. لا تصالحْ/ فليس سوى أن تريدْ/ أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ/ وسواك.. المسوخْ!. لا تصالحْ/ لا تصالحْ!”.

…، نعم، أيُّها الثَّابتُ على حَقِّك، نعم، أيُّها المُجاهِدُ المُقاوِمُ، نعم، أيُّها المُفَكِّرُ الرُّؤيويُّ ذو اليدِ الطولى في تَجَلِّياتِكَ العميقةِ والمُستنيرة…،نعم، ليسَ من سبيلٍ أمامَ فجرِكَ الآتي، وأمامَ نصرِكَ العَتيد، إلَّا أنْ تكونَ طَوْداً شامخاً فوقَ كُلِّ القُيود، وفوقَ السُّقوطِ والسَّاقطين، وفوقَ أولئكَ الذينَ خرجوا من مجدِ أُمَّتِهم وتاريخِها العريقِ، وخرجوا من نُورِ عقيدتِهم السَّمحاءِ والشَّماءِ، إلى تلاوينِ الانحطاطِ والحرباء، فنسوا سنواتِ الشُّموخ، وتَعَهَّروا كالمُسوخ،…نعم، أنتَ الفارسُ الوحيد، وأنتَ الأملُ العتيد، وأنتَ، أنتَ الصُّبحُ والنَّصرُ الأكيد…، فلا تُصالحْ، ولا تُفكِّرْ لحظةً في أنْ تُساوم…!.

                                                                                         مروان مُحَمَّد الخطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى