متفرقات

هُنا.. كانَ قبرُ أُمّي…/ قصيدة لشاعر فلسطين الاديب الكبير الاستاذ مروان الخطيب

هُنا.. كانَ قبرُ أُمّي…!

” كُلَّما أَوغلتُ في البحرِ نأَى الشَّاطىءُ عَنّي
ولكي أَسترجعَ الشَّاطىءَ في البحرِ أُغَنِّي
كُلَّما امتدَّتْ إلى النَّجمِ يميني
كانَ بَرْقٌ خاطفٌ أَسرع منّي
كُلَّما أَوضحتُ ما كانتْ تقولُ الشَّجره
خَذَلَتْني سَوسَةٌ نائمةٌ في الثَّمره
هكذا نبدأُ من حيث انتهينا
لا لنا شيءٌ ولا شيءٌ علينا”
– مُحمَّد علي شمس الدِّين –
ديوان (النازلون على الريح) – دار الآداب-
———————————

هُنا كانَ قبرُ أُمّي…،
وهُنا قامَ جُرحُ عُمري…!.
هُنا اغتيلَ الحجر،
سُبيَ القمر،
ذُبحَ النهر،
دوَّى نشيجُ الأَمواه…!؛
وهُنا بكتْ مُعلَّقتي،
مِدادُ وَلَعي بالقمحِ والملحِ والورد،
وجعُ البُرتُقالِ واللَّيمون،
وتحوُّلاتُ الزمانِ،
في صحائفِ الزنزلختِ والصَّبارِ والزيتون…!.
هُنا،
كانتْ بدايةُ الأَحلام،
ومُبتدأُ المواقيتِ معَ زهرةِ اللَّوزِ والجُلَّنار،
وهُنا،
هُنا،
صَرَعْنا آخرَ الحرباوات،
ظِلالَ الغرقدِ الملعون،
وتَطاولاتِ الزِّئبقِ على الزَّيزفون،
وأَطيافَ الرَّمادِ في شَهْدِ العُيون،
وذاكَ المُتسلِّقَ غُرَّة الأَماني،
هديلَ الآمالِ والياسمين،
وسبائكَ الرُّوحِ الحالمِ،
بإعادةِ عكَّا إلى شرقِ المتوسط،
إلى حِضْنِ دمشقَ الأَمين،
و إلى هيبةِ المُعتصمِ بالله…!.
*****
هُنا،
كانَ قبرُ أُمِّي،
وكانَ النَّهرُ الباردُ الحزين،
فاتحةً من ليلَك وأُرجوان،
وبَوصلةً تُحاكي شقائقَ النُّعمان،
وسفرجلةً تَقصُّ أَيامَها لسِفرِ الزَّمان،
وترسمُ بُحَّتَها على هيئةِ ماءِ الرُّمان،
ولا تنسى لحظةً،
صلتَها بالمَرجانِ والقُرآن…!.
هُنا،
كتبَ اللَّيلُ إلى النَّهار،
رسالةَ شوقٍ وأُنسٍ واعتذار،
ومُقدِّماً بينَ يديهِ قافيةً عصماءَ للقصيدِ الآتي،
وجديلةً مرتويةً من نُسغِ الدَّوالي،
من أَنداءِ الأَصباحِ المنسرحةِ في جوارِ الكرمل،
وعندَ نقطقةِ الصُّعودِ الأُولى إلى حرمون…!.
هُنا ارتدى المكانُ لبوسَ الأَقاحي،
أَثواباً تُحاكي قُبَّةَ الأَقصى،
وإزاراً فيهِ من رُحاقِ حمص،
ما يُطمئنُ الوتين،
ومرقدَ خالد بن الوليد،
وذاكَ الشاميَّ المُوشَّى بأَلقِ حِطِّين…!؛
وهُنا،
كانتْ نقطةُ التَّلاقي الذَّوباني،
بينَ تمرِ البصرةِ وأَنينِ جُزيئاتِ الماء،
حينَ تمترسَ الكيدُ الأَمريكيُّ في سُلافِ الأَتواق،
وخلفَ دهاءِ هنري كيسنجر،
وفي المسافةِ الممتدَّةِ بينَ وعدِ بلفور ورغابِ هرتزل،
فاستحالتِ الأَرضُ في هذا الرُّكنِ الحميم،
قصيدةً من عقيقٍ وجاد،
وقصَّةً قصيرةً،
تتَّصلُ خيوطُها،
بروايةِ الطُّوفان،
وبرحلةِ جلجامش وأَنكيدو،
للبحثِ عن سرِّ الخُلود في الأرض…!.
*****
هُنا،
تَتَبَّرَ التُّراب،
تَوَرَّقَ الضَّباب،
تَعندلَ السَّحاب،
تعرَّى من الذُّهولِ الغياب…!؛
واستحالتْ أَعْظُمُ أُمِّي في لَحْدِها الفجيع،
منائرَ للآتي المُشَنَّفِ برؤى الملائكة،
ومَراقيَ تصهلُ،
عادياتٍ في الماوراء…!،
كأَنَّها البُراقُ في تَجلِّياتِ الإسراء،
أَو البَقاءُ في مُنازلةِ الفَناء…!.
*****
هُنا،
وُلِدَتْ مَلْحمةٌ بزَّتِ المُعَلَّقاتِ هيبة،
وَطافتِ الأَرجاءَ والآفاق،
رُحاقاً فوقَ أَيامِ العَرب،
فَغَارتْ بُعَاثُ في رملِ الفيافي،
وهَلكتْ داحسُ والغَبراءُ،
في مطاوي الكُثبان،
واسْتَعرَ وَجْدُ مَنْ لمْ يأتِ بعد،
كأَنَّهُ القائمُ صلاةً في رقصةِ الدَّوران،
أَو السَّاكنُ تَهْجَاعَ السُّنونواتِ والمَحار،
وأَلقَ النَّوارسِ في أَعراسِ البحار…!؛
وَهُنا،
كانتْ بدايةُ اللُّجوءِ،
في جِوارِ النَّهرِ واليمّ،
ذاكرةٌ من بُرقوق ودم،
وأُخرى من ليلَكٍ وَهَم،
وخامسةٌ من بَرقٍ ورعدٍ ونَجم…!؛
هُنا،
هُنا،
فاضَ الجاري النَّديانُ في محاريبِ الأَمواج،
واشتاقَ ذَوْبَاً الإستبرقُ،
إلى وهجِ الدِّيباج؛
…، وعادتِ الدَّقائقُ والنِّيران،
إلى أَبجديَّةِ التِّينِ والشَّغفِ والكهرمان…!؛
ثُمَّ تَدَلَّى من السَّماءِ السَّابعةِ نداء:
هذي الأَرضُ لي،
وَلي،
تلكَ السَّماء…!،
هذي المَراقدُ والقُبُور،
هذا القَتامُ،
وذيَّاكَ النُّور،
لِيْ…!؛
ولي الجُودِيُّ والتَّنُور…!؛
فلماذا تَعبثُونَ بكيمياءِ الأَجداث،
ولماذا تَسْرقونَ من عُيونِ الموتى النُّعاس،
ولماذا تُهْرَعونَ ضَجيجاً من سُلالةِ نيرون،
إِلى هَجعةِ الأَسحارِ والدَّغشاتِ والأَغلاس…؟!.
*****
هُنا،
في هذا المكان،
سقطَ مرَّاتٍ ومرَّات،
في الغَبشِ والوحولِ موشي دايان،
وسقطتْ ثقافةُ الفودكا،
وليبراليَّةُ الويسكي في الصُّداعِ والغثيان…!؛
فلماذا تنشرونَ حُروفَ ” الكبتغون”،
في أَنفاسي وضُلوعي،
وتُحاولونَ إسالةَ حِمضَ النيتريت،
في نبضي ورُوعي،
وتُدمِّرونَ،
تُحَرِّقونَ،
تُجرِّفونَ قبرَ أُمِّي…؟!.
*****
هُنا نَهرٌ من زبرجد،
هُنا بحرٌ من لازورد،
ماضٍ من أَلمٍ،
وآتٍ من آسٍ ومَجد…!؛
ومن هُنا،
سأَعودُ إلى سلجوق،
إلى بوطانَ وغرناطةَ وصفد،
إلى نينوى وحيفا ونجد…!،
سأَعودُ إلى حرفي ولوني،
وأَعودُ إلى حبيبتي،
إلى قدسي وطشقند…!.

مروان مُحمَّد الخطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى