الخدمات الاعلامية

بقلم الدكتور جورج شبلي – سابا زريق، كرامةُ الشِّعرِ والوطن

عندما تكونُ صورةُ الواقعِ قاتمة، يكونُ الانهزامُ الذي تُمليهِ فُوَّهةُ اليأسِ بِلا جَدوى، فبدلاً من اغتيالِ الفرحِ بوَضعِ الأملِ تحت المقصلة، ينبغي أن تُرفَعَ اليَدُ للموافقةِ على خروجِ الشّمسِ من قمقمِ الليل، فالخيارُ، إذاً، هو بينَ النّورِ وقَمعِ النّور. وإذا كان اللهُ ” أَبى للَّيلِ امتداداً…”، كما قالَ سابا زريق، فالنّورُ هو أَلِفُ الوجودِ وياؤُهُ.

سابا زريق ” الفَيحائيُّ ” مُنحازٌ الى نورِ الإبداع، وهو، في ذلك، رمى الى تصنيعِ إيديولوجيا صارمةٍ عَيَّنَ، بها، أبرزَ مبادئِ الولاءِ للإبداع، وعَمَّقَ أسسَ الإنتماءِ إليه، في كلِّ مرةٍ أَطلَقَ من رَحِمِ خزانتِهِ مولوداً يلتزمُ دربَ صاحبِهِ في التّدليلِ على الدّهشة. إنّ شِعرَهُ هو تَحَسُّسٌ جَماليٌّ تحت عباءةِ وقايةِ الشِّعرِ الموزونِ من امتصاصِهِ بالدَّخيلِ، ومن تقليصِ مساحةِ اعتبارِهِ فنّاً رائداً يجبُ تحصينُهُ من خطّةِ الإطباقِ عليه، ليصبحَ ذبيحةً مُدَنَّسة. من هنا، كان سابا زريق مُلتزِماً بالأُصول، يعيشُها في صميمِ شِعرِه، بقُطبَيها المُتكامِلَين، أي المُحتَوى وطريقةِ التّعبير، مُساهِماً، بأسلوبِهِ الشخصيّ، بتأصيلِ مقوّماتِ الشِّعرِ لغَرسِها في الحاضر. في مجموعةِ الآثارِ الكاملة لِ ” شاعرِ الفيحاء ” مشوارٌ صوبَ الرّوائعِ، لتعليقِ المشانقِ للبشاعة، وما كان ذلك ليحصلَ لولا فائضُ الموهبةِ لدى شاعرٍ استطاعَ أن يعطِّرَ الموزونَ المُقَفّى بنفحةٍ تستقصي المُمتِعَ من يواقيتِ الجَمالِ الذي هو، وحدَه، أَعلَقُ بالذَّوق، لأنه لسانُ الخيالِ الأَقدرُ على بَعثِهِ حَيّاً. والجَمالُ الذي يأسرُنا، في آثارِهِ، هو الجَمالُ المَصقولُ بالرقّة، والذي يلامسُ القلبَ الى حَدِّ التَّشارُكِ في عَدِّ النَّبض، وهو الجَمالُ الذي تنهضُ العذوبةُ الى عمارتِهِ ليجيئَه منها هُبوبُ ما فيها من بَريق. لقد تصرَّفَ سابا زريق في الشِّعرِ الرّاقي تَصَرُّفَ المالِكين، بصفاءِ ذِهنٍ، ونقاءِ تعبير، وبحميميّةِ نَسَب، فالعِشرةُ بينهما طويلةٌ، وعطريّة، ومصقولةٌ بمحمودِ قِيَمٍ أَبرزُ ما فيها الإشتياق. وقد صانَ زريق الشِّعرَ صيانةَ حبيبٍ، فأَعتَقَه من لَمسِ الأرض، وصدَّ عنه الكَدَرَ ومعالِمَ العاديّة، بإجادةٍ ساهمَت في تحسينِ نَسلِهِ لكي تأتيَ نتاجاتُهُ من الأطايب، ولهذا، سلَّمَ الشِّعرُ لهُ سرَّه، وأحاطَ هواهُ بهواه، حتى قيلَ: إنّ الشِّعرَ وسابا زريق نَفْسٌ واحدة.

لقد بالغَ سابا زريق في تَكحيلِ مقطوعاتِهِ بالوجدانيّاتِ التي تُظهِرُ أنّ شاعرَ الفيحاءِ خَبِرَ النّفسَ الإنسانيّةَ، وعاشَ ما تُواجهُهُ من شكٍّ، ورغبةٍ، ومُيول، وهي معطياتُ الإحساس، والجوابُ عن طرائقِهِ. كما بنى سابا قصائدَه على الصّورة، لكي لا يصيرَ محلُّ السَّردِ أَعمرَ من بقعتِها، فأَنِسَ إليها، وزادَ طَلَبُهُ لها حتى تحوَّلَت قصائدُهُ جسراً بين الصّورةِ والصورة. وهذا الإحتكاكُ غَيَّبَ تَراكُمَ الحَشوِ الذي يُكَلِّسُ جماليّةَ الشِّعر، ويضعُ أسلاكاً شائكةً، فيه، أمامَ مسيرةِ الإبداعِ، فهلِ الشِّعرُ، في النهايةِ، إلّا صورة ناطقة ؟ لقد حلَّقَ سابا زريق، في آثارِهِ، من دون دَوِيّ، فهو تَلَمَّسَ أروقةَ الإبتكارِ بسلوكٍ شَيِّقٍ خالصِ النِيّة، لأنه لم يَرضَ أن يكونَ الشِّعرُ خِرَقاً، ومجرَّدَ كلامٍ مُرسَلٍ لا يثبتُ في الزّمن. إنّ الشِّعرَ الموزونَ مع سابا زريق مأثوراتٌ إبداعيّةٌ بها عائدةٌ، فهو لم يتنصَّلْ من واجبِ إعادةِ الشِّعرِ الى حضنِ الأهميّة، بدستورٍ من القواعدِ، يؤكِّدُ على وَقعِ الكلمةِ، وتَرابُطِ العِبارات، وأَبعادِ المعاني، وقُدرةِ الإيحاءِ بدونِ تَشَوُّش، وعلى تَمَحوُرِ الأغراضِ والمقاصد، كلُّ ذلكَ لكي يَلِجَ القارئُ الى نعمةِ الإفادة، وهذا شرطٌ حَتمِيٌّ لنجاحِ الشِّعرِ في بُلوغِهِ أهدافَه.                                                                                                          لبنانُ في عُمرِ سابا زريق هو مُعجَمُ عمرِه، طغى على مراحلِهِ، فلم يقصِّرْ بالإحتفالِ بهِ مُعطًى له مَذاقٌ خاص. عاشَ معه في دائرةِ النّار، كما في زمنِ النّور، وباتَ، في وجدانِهِ، وفي شِعرِه، قضيّةً ينبغي الإنتصارُ لها. لقد عاشَ لبنانُ في قلبِ سابا بريئاً، ابنَ الفرحِ، نقِيّاً، وليس مُلكاً لِأَحد، بالرَّغمِ من غَزوةِ عصرِ الظّلماتِ لرُبوعِهِ، ما جعلَ شعبَه ” على أشواكِهِ يتألَّمُ “. لكنَّ ” أنا ” سابا زريق بقيت متماهيةً بالوطن، بينها وبينهُ عِشق، فلم تَمِلْ عن التزامِها التَشَبُّثَ بكيانِهِ، وإيمانِها بحقِّهِ سيّداً ” على عينِ اللّيالي “، وواحةَ سلام، لِذا، لم يَرْثِ سابا وطنَه، في موقف، لأنه كان يتمتمُ، دائماً، أنّ زمنَ البَكّائينَ وَلّى. أمّا التخطّي، في مقاربتِهِ مفهومَ الحُكمِ والسّلطة، فهو استشرافٌ لِما آلَت إليهِ الحالُ، في يومِنا هذا، فقد نبَّهَ الى أنّ الحُكمَ ” مَنعةٌ في الخلق “، وفي ذلك موعظةٌ تُعلنُ أنّ النّزاهةَ هي القيمةُ العُليا التي ينبغي أن يتَّصفَ بها سلوكُ الحاكمين، في كلِّ زمانٍ ومَطرَح.

أمّا سيرةُ حياتِهِ فهي ابتهاجٌ لعُمرٍ انكشفَت فيهِ غيرتُهُ على أيّامِه، فلم يقفْ منها مكتوفَ القَلَم، خاصةً في الحالاتِ المُلتهِبةِ التي جرَّعَتهُ سَفكَ دمعٍ، لأنّ قناعةَ الرَّجلِ بأنّ الحياةَ مواجهة، لم تَدَعْهُ يتهالكُ أمامَ الوجعِ، فحَكى، وكان في حَكيِهِ مَلمَحُ عمرٍ بُعِثَ حيّاً. لقد استمدَّ سابا من قناعتِهِ بلامحدوديّةِ الإنسان، عمارةَ عمرِه، وحدَّدَ مقاصدَه بارتقاءٍ صوبَ الحقيقةِ، والآخَر، بمنظورٍ فلسفيٍّ أخلاقيٍّ لقَّنَهُ تلاميذَه، مُشَدِّداً على الحريّةِ، والصّداقةِ، والإحترام، والإنفتاح، وعلى أنّ الشّخصَ الإنسانيَّ هو الأَرفَعُ مقاماً بين المخلوقات، لأنّه يتميّزُ بالمعرفة، ومُهَيَّأٌ للإرتباطِ بالفضائل، أو القِيَمِ المُثلى التي هي الحقُّ والخيرُ والجَمال. من هنا، لم تكن سيرةُ حياتِهِ سرداً لمجرياتٍ في أيّامِه، فحسب، بل تَطَرُّقٌ الى ما يمكنُ أن يُستفادَ من مغازيها، سُمُوّاً أخلاقيّا، واجتماعيّاً، وإنسانيّاً، يوفِّرُ قاعدةً في الحياةِ يُرتَكَزُ إليها.                                                                                       سابا زريق الواثِقُ من ذاتِهِ في خدمةِ الكتابة، والذي نادى بأنّ نفسَه ظَمِئَت الى الشِّعر، وكأنّ رغبةً مقدَّسةً اجتاحَته الى ذلك، تركَ بصمةً راجحةً في مَسارِ الإبداع، ما أَشعلَ التَّوقَ الى اقتفاءِ دربِهِ، لأنّ طقسَه الأدبيَّ الرّاقيَ أخذَ بمجامعِ قلبِنا، خالِقاً فينا عيدَ الفرح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى