الخدمات الاعلامية

بشارة العذراء مريم وكيف أصبحت عيداً وطنيا / الشيخ د. محمد نقري/الشراع

الشراع 25 اذار 2023

مريم عليها السلام يسميها القرآن الكريم أيضاً الصديقة ويصفها بأنها طاهرة وأن الله اصطفاها على نساء العالمين وأنها أفضل نساء العالمين، وترفعها الأحاديث المروية عن الرسول محمد في أعلى المراتب وتصفها بأنها سيدة نساء أهل الجنة. وقد أفرد الله تعالى في القرآن سورة بأكملها تحمل إسمها المبارك عليها السلام.

يحدثنا القرآن الكريم عن نشأتها بأنه في البدء كانت البركة والهداية تحف والديها فكان الإصطفاء والإختيار والإنتقاء الإلهي لهذه الذرية المتعبدة المتفانية في حب الله تعالى . كما اصطفى الله آدم ونوحاً وإبراهيم من قبل كذلك اصطفى الله آل مريم وهم آل عمران على العالمين، وهو اصطفاء كما يذكر القرآن الكريم في معرض كلامه عن سيدنا ابراهيم عليه السلام ليس في النسب والحسب وإنما في الهداية لكل من آمن واتقى وسار على درب الأنبياء والصالحين. وهذا الإصطفاء لمريم لم يكن وليد صدفة أو رغبة في الإنتقاء فتكون العفة والطاعة والهداية نتيجة لهذا الإختيار الإلهي وإنما سبق في علم الله تعالى الأزلي من أن البتول مريم ستكون منذ البدء طائعة عابدة في حياتها الدنيوية فكتب الله لها الإصطفاء والإنتقاء من بين نساء العالمين.

قصة الطاهرة المنزهة عن كل دنس ابتدأت من دعوة صادقة توجهت بها أم مريم ليكون ما في بطنها ذكراً وخالصاً لخدمة بيت المقدس، فلم تشأ منذ لحظة حبلها أن يكون هذا الولد قرة عين لها ولا أن يرتبط بها ولا أن يحظى برعايتها إيثاراً منها ليكون خالصاً لله فنذرته إلى خدمة بيت من أقدس بيوت الله في حينها، فلما وضعت طفلها تبين لها أنه أنثى فتوجهت إلى الله لتعلمه وهو العليم الخبير فأوحى الله لها بأن الذكر الذي كانت تريده ليس مثل هذه الأنثى ، لأنه سيكون لهذه الأنثى شأناً عظيماً أعظم من شأن الذكور، فهي أرادت ذكراً بمفهومها في الوفاء بالنذر ليكون في خدمة البيت، والله جعلها أنثى ولكنه سيعطيها بهذه الأنثى آية أكبر من خدمة البيت ، سيخدم بها العقيدة، لن يخدم بها رقعة تقام فيها الشعائر، بل سيخدم بها العقيدة على مر العصور حتى يحين وقت الدينونة، لأنه سيعطيها فيها آية ليست موجودة في غيرها من نساء العالمين، آية انطلاقة القدرة الإلهية وتحقق كلمة الله بأنه سيلد من هذه الأنثى من روح الله دون أن يمسها بشر على الإطلاق نبي من أعظم أنبياء الله وعبد لله من أقرب المقربين إليه، سيدنا المسيح عليه أتم الصلاة وأتم التسليم. وبهذا المفهوم يتحقق معنى البشارة لدى المسلمين ومعنى اصطفاء مريم على نساء العالمين الذي أراد الله منه أن يشيع ويشع فضلها ومكانتها بين الناس أجمعين.

تقبل الله المولودة مريم في خدمته وجعلها في كفالة زكريا الذي وضعها في المعبد، وكانت أولى الحقائق التي تعلو فوق الأسباب التي تجلت على مريم أن زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً. وهذا الرزق لم يكن من نوع الرزق الذي كان يأتيها به فلما سألها عن مصدره أجابته الطفلة مريم ببديهة ايمانية صادقة تعلمه بها درساً لن ينساه أبداً بأن هذا الرزق هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. فتحركت عندها بديهة زكريا الإيمانية ودعا ربه بأن يهب له ذرية طيبة فبشره الله بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين. وكان من البديهي أن تكون نتيجة هذا القبول الإلهي لمريم أن توجهت إلى الله راكعة ساجدة متعبدة خلال حياتها فهي مريم الطائعة العابدة البتول الصديقة.

قصة بشارتها :

وبينما كانت البتول مريم تكبر وتنشأ على العبادة والتفاني في حب الله تعالى، إذ جاءتها الملائكة ذات يوم وتنادت من كل صوب ومن كل جهة تبشرها بأن الله اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، فكان الإصطفاء الأول ضمن اصطفاء آل عمران وهو الذي كان على عالَم زمانهم، والإصطفاءالثاني كان اجتباءً لها واختياراً على نساء العالمين في أي زمان ومكان وذلك للمهمة التي لم تقم بها أمرأة غيرها في العالم كله.

وبعد الإصطفاء الإلهي بشرتها الملائكة بالمسيح يولد بمقتضى الكلمة، فوجلت من هذا الخبر العظيم ولكنها خشيت من الطعن في عفتها وبعرضها وهي التي لم يمسسها بشر على الإطلاق، فأخبرها الله بأنه لن يمسها بشر فالله يخلق ما يشاء بقوة كلمته، وذكر بعض المفسرين بأن جبريل أخذ بردن قميصها ونفخ فيه فحملت لتوها. وفي فترة حملها انتبذت مكاناً بعيداً عن أهلها وعن الناس كافة لجهة المشرق واكتفت بأنسها بالله تعالى وعبادته إلى أن ألجأها ألم المخاض إلى جذع نخلة فوضعت طفلها بعد أن تمنت أن تكون نسياً منسيا، فخاطبها الله تعالى بألا تحزن ولتقر عينها بما هي فيه فليس هناك أجمل ولا أفضل من أن يصطفيها الله تعالى ويجعلها سيدة نساء العالمين ولا أسعد من أن يكون طفلها من الأنبياء الذين اصطفاهم الله لهداية البشر ومن المقربين إليه وأن يكون علامة من علامات يوم الدينونة ، فسيرفعه الله اليه حياً بجسده وبروحه وسيعيده إلى الأرض ليملأها عدلا وسلاماً بعد أن تكون قد ملأتها جحافل الصهاينة بالغدر والظلم والفتن والحروب.

الإلتباس الذي وقع فيه كثير من الناقدين الذين شككوا بأن القرآن أخطأ بنسب مريم من آل عمران وأنه ذكر بأنها أخت هرون أي مريم أخت موسى. وبذلك يخلط في نسب مريم ام المسيح مع مريم أخت هارون وموسى وذلك في الآية القرآنية الآتية :

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا(27)  يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (  سورة مريم ، والرد على ذلكبأنها قرابة مجازية وهو مألوف في اللغات السامية مثل العربية والعبرية والآرامية : نجد في إنجيل متى 9 : 27 «  وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه اعميان يصرخان و يقولان ارحمنا يا ابن داوود ” سؤال هل يسوع ابن داود ؟ الأجابة طبعا لا. فداوود مات من قبل ميلاد يسوع بعشرات السنين ولكن لماذا نادى هؤلاء يسوع بقول” يا ابن داود ” ولماذا لم ينكر عليهم قولهم هذا ؟ لا يقصد من هذا النداء في اللغة العربية واللغة العبرية هو كون داود هو أب يسوع ولكن هذا من باب التشريف وكون الشخص المنسوب له الأنسان هو شخص ذو مكانة بين قومه فـداود النبي كان ذو مكانة بين قومه ونجد نفس الشئ في الإسلام.

فرسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم قال مرة (أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب ) مع أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ولكنه ذكر الجد دون الأب. إذن فالأخوة المذكورة في الآية هي أخوة مجازية ولم تكن حقيقية بحالمن الأحوال، فقد روى عن الحسين بن علي سلام الله عليهما أنه كان فيلسانه رثة (لدغةفقال الرسول ورثها من عمه موسى فهل يأتى أحد ويقول لناأن النبي موسى هو عم الإمام الحسين؟ بالطبع لا، أعظم دليل على أن القرآنلا يعني مريم أخت موسى هوأن الوصف القرآني:”يا أخت هارون” ولم يقل: يا أخت موسى فلو كانت أختهما لذكر القرآن الأعظم منهما و هو موسى.

مريم عليها السلام من سبط لاوي من عشيرة ال عمران (عمرام) من بيتهارون. طبقا للكتاب المقدس فان أعمال الكهنوت وخدمة بيت الله قاصرة فقط علي سبط لأوي فقط دون غيره من باقي الأسباط، بل ان أعمال الكهنوت قاصرة فقط على أبناء هارون فقط دون باقي السبط: “في خيمة الاجتماع خارج الحجاب الذي أمام الشهادة يرتبها هرون و بنوه من المساء الى الصباح أمام الرب فريضة دهرية في أجيالهم من بني إسرائيل” سفر الخروج 27/ 21.

حنة : هي أم مريم دون أن تذكر في القرآن باسمها، وكأن الله تعالى قد أفرد لمريم شرف ذكرها باسمها حصراً في القرآن الكريم ، وقد وقفت تناجي ربها في صفاء وطهر ينم عن إيمان صادق فقالت : «رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني»، محرراً أي لا سلطان لأحد عليه، والسبب أن حنة موجودة في بيئة تفتخر بالأولاد ليكونوا قرة عين لهم ، فهي لا تريد هذا الفخر المادي وإنما تريد أن يكون ما في بطنها محرراً من كل الناس بما فيهم هي نفسها فلا تريد أن يرتبط لا بها ولا بأحد من الناس بل برب العالمين وحده

تلك هي مريم البتول سيدة نساء اهل الجنة بل سيدة هذا الكون بما فيه وبمن فيه، سيدة ذات حياء منقطع النظير، ذات إيمان وخلق تعلمنا منها كيف تكون المحبة وكيف يكون الإمتثال والتواضع والخضوع لله الخالق. هذه المكانة العالية التي لم يبلغها أحد من النساء قبلها ولن يبلغها أحد من النساء بعدها ذكرها القرآن الكريم فكان اسم مريم إسماً لسورة بأكملها وكانت مريم هي المرأة الوحيدة التي ذكرها الله تعالى باسمها في القرآن الكريم حتى لايشاركها أحد في هذا الشرف فتبقى لمريم شرفية الذكر الإسمي وحدها دون أية امرأة أخرى على الإطلاق.

هذه مريم المؤسِّسة والمؤسَّسة والتي سارت على منهجها قوافل المؤمنات الصادقات القانتات العابدات في كل زمن وفي عصر وفي كل حين. منهجها عنوانه : العفة والتعبد والتسليم لمشيئة الله والإخلاص التام له .

 

كيف نشأت فكرة اللقاء الإسلامي المسيحي حول سيدتنا مريم العذراء، وإعلانه عيداً وطنياً ؟

لا بد  لي من العودة الى الوراء والى الأشهر التي واكبت انهيار الشيوعية في الغرب. فمن يقرأ ما كتب ويستقريء الأحداث بعد انهيار الإتحاد السوفياتي سيجد بأن التركيز على وجود عدو جديد للغرب هو المحور الأساسي الذي عملت على أساسه الصهيونية العالمية وفبركته في كل أجزائه لإقناع دول العالم بأن العدو الجديد بعد انهيار الشيوعية هو الإسلام. وقد بررت هذا العداء نظراً لما يحمله الإسلام من معتقدات وأفكار تتناقض – كما تزعم – مع مبادىء الديمقراطية والحضارة والتقدم. ومن كان لديه اطلاع على ما أثير ويثار في الغرب من قضايا لوجد أنها تصب كلها في هذا الإتجاه : فمن قضايا الحجاب وحقوق المرأة والأحوال الشخصية والإرهاب ومعاداة الديمقراطية والرسوم الكاريكاتورية المستهزئة بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام  مروراً بقتل الأبرياء في الجزائر و تهجير المسيحيين في العراق ومحاولات الإيقاع بين الأقباط والمسلمين في مصر..الخ. إزاء هذه الإفتراءاتوالفتن كان الرد الإسلامي عليها رداً دفاعياً وآنياً. ففي كل مرة يثار فيها العالم العربي والإسلامي عن قصد وسوء نية مبيتة كانت الردود العاطفية والسريعة على هذه الإفتراءات هي الهدف، وكأن المقصود من هذه الإفتراءاتليست العناوين بذاتها وإنما المقصود هو الإيقاع بالعرب وبالمسلمين ، حيث ينتظر أصحاب اللعبة والقائمون على هذه التجارب الردود العاطفية الشاجبةلنقلها الى العالم على أنها تصرفات همجية وغير حضارية. هذه الإفتراءاتالتي تفننت الصهيونية بإثارتها ونقلها من مكان إلى آخر ومن عنوان الى عنوان مازالت تترصد كل الشرور بالعالم الإسلامي والعربي. ومنها على سبيل المثال إشعال نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في أكثر من بلد ومحاولة إخراج المسيحيين من هذه المنطقة، إلى إزكاء الفتنة بين المسلمين أنفسهم. إزاء هذه الإحداث والتي يساق اليها العالم العربي والإسلامي سوقاً لا توجد خطة واعية ومحكمة لابراز صورة الإسلام الحقيقية والحضارية بصورة تلقائية وغير انفعالية.

أمام هذه الإنفعالات وردود فعل الشارع الإسلامي العفوي والإكتفاء باتباع سياسة الرد عند الهجوم هي التي دفعتني الى التفكير في كيفية التصدي الإيجابي على هذه الإفتراءات.  هذه المنهجية التي آليت نفسي على القيام بها منذ عدة سنوات ساهمت بجهد متواضع وفي محيط ضيق في إظهار بعض النواحي الحضارية الرائعة من تاريخنا الإسلامي والنظم التشريعية التي يزخر بها فقهنا في كافة المجالات. بل وإن عقيدتنا الإسلامية القائمة على احترام التعددية الدينية ذهبت الى أبعد الحدود عندما طالبت المسلم بالإلتقاء مع أهل الكتاب على كلمة سواء يجتمعون بها حول الإيمان بالله واحترام الأنبياء والرسالات السماوية. بل وأن العلاقة ما بين المسلم والآخر المختلف دينياً هي ما رسمه القرآن الكريم عند قوله : (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) فالسيئة التي ذكرها القرآن الكريم في هذه الآية هي في مجال تقييم التصرف مع الآخر وهي لا تعني أن يتصرف الإنسان المؤمن تصرفاً سيئاً بحد ذاته يسيء إلى الآخر وإنما تعني أن تصرفه الحسن مع الآخر ينقلب إلى سيء بمجرد وجود تصرف أفضل منه. هذا التصرف الإسلامي الواجب الإتباع مع الآخر الذي نختلف معه أو تباعدنا عنه المشاحنات، فما بال الآخر إذا كان شريكاً لنا في الوطن وفي المأكل والمشرب والجوار.  

لقد أطلقت مبادرتي بهذا الخصوص منذ سنوات عديدة : وهي أن نبحث نحن المسلمين والمسيحيين عن مبادئ مشتركة طبيعية غير مصطنعة لكي نلتقي بها سوياً من أجل كلمة سواء ، نؤكد فيها ايماننا بالله وبرسله وأنبيائه وكتبه السماوية التي يؤمن بها كل واحد منا على حدة وباليوم الاخر وبالأعمال الصالحة الخيرة. وقد كانت باكورة هذه المبادرات التي أطلقتها في بعض الدول الأوروبية وفي لبنان هي الإلتقاء حول سيدتنا مريم لما تحمله من معاني الإصطفاء والطهارة والفضل على نساء العالمين. نشترك نحن المسلمين والمسيحيين بمحبتها وبمحبة ابنها السيد المسيح عليهما السلام وبالإيمان بالمعجزة التي تلقتها بين نساء العالمين بقدرة الكلمة ” كن”  فكانتبشارة الملك جبريل لها وحبلها دون اي واسطة بشرية إظهاراً لهذه القدرة الإلهية المعجزة. هذه النقاط المشتركة هي التي دفعتنا الى الإلتقاء حولها حيث يتجاذبنا الحديث في لقاء سنوي يجمعنا ذكرها ومحبتنا لها ومحبتها لنا : فيقرأ المسلم ما أفرده القرآن بسورة تحمل اسمها دون أن يشترك معها بهذه الخصوصية أحد من النساء على الإطلاق ، ويقرأ المسيحي ماذكرهانجيله من كلام عن سيرتها ، وينشد المسلم أناشيد دينية عن حبها لله واصطفائها على نساء العالمين ، ويلقي المسيحي ترانيمه المقدسة التي تمجد اسمها، وأخيراً ندعو نحن المسلمون والمسيحيون مجتمعين بدعاء نتضرع به الى الله ليحمي لنا وطننا لبنان من الفتن، ويجعل المحبة والمودة تعمان بين جميع أبناءه .  

مجلة الشراع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi