اخبار لبنان

سعد الحريري كان يعرف كل شيء

هذا ليس تراجعًا عن موقفٍ أو رأيٍ أو انتقاد. وليس إعادة قراءةٍ أو تمحّصٍ أو تدقيق. وهو بالتأكيد ليس مسايرةً أو تملقًا أو مُحاباة. فالرجل يرزحُ في عتمةٍ فُرضت عليه. وليس ينال المادحُ من مدحه إلا استهدافًا وقمعًا وظُلمًا وبطشًا واستبعادًا وقطيعة. لكن الحق يعلو ولا يُعلى عليه. بل وكل ساكت عنه شيطانٌ أخرس. والحقيقة في قواميسنا صنو الكرامة. صنو الشرف. صنو المروءة. وهي ليست تستقيم بالمكابرة بل بالاعتراف. وانا هنا لأعترف. ولأقول في الرجل ما يحث الضمير على سرده وعلى المجاهرة به.

 

هذا النص هو مجرد إنصاف مُستحق في ذمتي وفي ذمة التاريخ. أكتبه دون أن ترتجف لي يدٌ أو تهتز لي قامة. وليكن بعده ما يكن. وليعلم القاصي والداني أن الدنيا ليست تُساوي عندي ما يُساويه جناح بعوضة.

عرفنا سعد الحريري منذ نعومة أظفاره. حطّت طائرته فوق جثة عملاقٍ ما أنجبت المنطقة نظيرًا له منذ خمسينيات القرن المنصرم. وصل إلى جموعنا المحتشدة فوق بحر من الدم. كان مكلومًا. موجوعًا. مصابًا في كبده. وكنا على شاكلته أو نزيد. لا شيء في جعبتنا سوى الحسرة والكسرة والدموع المجبولة بالثأر والغضب. وقفنا إلى جانبه يومذاك. شددنا الأحزمة. وانطلقنا معًا في واحدة من أشرف الرحلات المجنونة على الإطلاق.

حطت نانسي بيلوسي رحالها في دمشق، كبيرة البرلمان الأميركي وقتذاك. طبعت قبلتين على خد بشار الأسد. ثم لحقها نيكولا ساركوزي، رأس فرنسا المأزومة. طبع قبلتين أيضًا على خد الرجل ذاته. معلنًا فك العزلة الكونية عن المتهم الأول بحرق رفيق الحريري وسحقه ومحقه. بعدها انطلقت قافلة الحج إلى قصر المهاجرين. وصار لزامًا علينا أن نهادن ونصمت ونبتلع ألستنا. قيل لنا إن إعادة سوريا إلى الحضن العربي، يعني سحبها من أحضان ولاية الفقيه. تجرعنا السمّ على مضض. ثم أُجبر سعد الحريري على تبرئة النظام السوري من دم والده. وأُرغم على النوم في سرير بشار الأسد. وكاد الأمير عبد العزيز، خامس أبناء الملك الراحل عبد الله، أن ينتزع موقفًا علنيًا من وريث الدم، يقول فيه سعد الحريري على الملأ إن المحكمة الدولية مُسيّسة، وهي ليست تعنيه من قريب أو بعيد.

ظنت القيادة السعودية، ربما عن حُسن نية وطيب خاطر، أنها تستطيع طيّ الخلاف وفتح صفحة جديدة، عنوانها استعادة سوريا، لكنهم عادوا وارتطموا بما لم يحسبوا له حسابًا، حيث تبين لهم أن هذا النظام يمتهن شراء الوقت ويحترف الطعن في الخاصرة، فكان أن انقلب على كل اتفاقٍ وكل عهدٍ وكل تعهدٍ، وعاد إلى ممارسة دوره التاريخي، كخنجرٍ مغروزٍ في رقبة العرب.

كانت تجربة مهولة ومريعة. لكنها مضت. تركت آثارها ودروسها العميقة ومضت. كانت خطأً كبيرًا. بل خطيئة. بل انزلاقًا إلى ما يصعب بعده الصعود. لكننا صعدنا. وصبرنا. وناضلنا. ندفن قتلانا ونمضي. نمسح الدم عن نواصينا ونمضي. نملأ النعوش والقبور بجثث أشرف الرجال ونمضي. لم يكن الاستسلام خيارًا. كنا نظن في عميق ذواتنا أننا سننتصر. وأن صبر ساعةٍ في آخر هذا الليل، لا بد وأن يُكلل ببزوغ النهار.

اشتعلت دمشق. اشتعلت درعا. والغوطة. والأرياف. اشتعلت حمص وحماة وحلب وإدلب وبابا عمرو والزبداني وجسر الشغور. اشتعلت الدنيا ونحن معها مشتعلون. ما كنا لنصدّق حتى في بديع مخيالنا أن ربيع سوريا قد آن قطافه. وأن البلاد التي حبسها رجلٌ في زجاجة على مكتبه، صارت كعصفور هرب للتوّ من سجّانه.

كانت ثورة عظيمة. تماهينا معها وكأنها قطعة من لحمنا. من جلدنا. من أظافرنا التي قلّمها التعب. من يومياتنا المُثقلة بكل أوجاع الأرض. من ذاكرتنا الطرية الشهية المفتوحة على جرح لا يبرأ. كانت ثورة عظيمة. شعرنا فيها ومعها أننا على مشارف الضوء. قاب قوسين أو أدنى من الخلاص. هي رمية حجر لا أكثر. هي مسألة وقت لا أكثر.

كان سعد الحريري أعلم منا بلعبة الأمم. تذوّق مرارتها حين أُرغم على مُصافحة بشار الأسد. قال للأمير المتوثب نحو ولاية العهد: لن ندخل في اشتباك مع حزب الله. لن نشعل البلد. لن نجرّ الحريق السوري إلى ديارنا. نحن بلد شديد الحساسية والخصوصية والتعقيد. نرقد فوق حرب أهلية مستدامة. أي خطأ في الحساب يعني انزلاقنا جميعًا نحو جحيم بلا قرار.

أصيب محمد بن سلمان، عراب عاصفة الحزم في اليمن، بصدمة عميقة ومدوّية. تُضاف لحساسية شخصية مردها إلى مشاكسات منذ أيام الصبا بين الرجلين. اتخذ قرارًا ناجزًا بتكسير أضلاعه. فاستند إلى معارضة لبنانية وسنية لدور الرجل وسياساته، والتي تمحورت بغالبيتها حول رغبة سعد الحريري في المهادنة وربط النزاع وخفض نسبة التوتر والتوثب نحو ابتكار الحلول والتسويات، ولو بعيدًا من التوازن الذي بات مفقودًا حد الانعدام.

ركبتُ، ومعي كثرة كاثرة، في مركب التصويب على الرجل انطلاقًا من سياسات عشوائية، وتنازلات تراكمية، وصولاً إلى التسوية المريعة مع ميشال عون، وما نتج عنها من موبقات ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولم نُقصّر بسردها وتفنيدها ومواكبتها لحظة بلحظة، وقد لامسنا حدود مطالبته بالاستقالة والرحيل، مرة ومرتين وألف، معتقدين حينذاك أن المشكلة تكمن في الرجل وحده، وفي شخصيته الضعيفة، وفي سلوكه وممارساته وسياساته، لنعود ونصاب بالخيبات، خيبة تلو خيبة.

الأمير الوسيم، الذي يريد لعموم الناس أن يستحضروا وجه جمال خاشقجي كلما ذكروا اسمه، تعامل مع هذا الاشتباك وفق كتاب سعود القحطاني، حيث حمل سعد الحريري إلى الرياض كمواطن سعودي لا كرئيس حكومة لبنان. ومنها إلى شاشة العربية. هناك حيث قرأ نصًا مكتوبًا بأدبيات لم نعهدها ولم نسمعها قط من الرجل.

رفضنا كلنا، رغم الملاحظات التي لا تنتهي، ورغم الاشتباك حول كل شيء، رفضنا هذا النوع من التعامل، وقلنا لمن يسمع ولا يسمع، إن أحدًا في الدنيا ليس يستطيع أن يتعاطى معنا بهذا النوع من الخفة والاستخفاف، وإن كان لا بد من تصويبٍ أو تقويم، فلا بأس، لكن وفق الكتاب الذي نقرأ فيه نحن، لا وفق إرهاصات ثامر السبهان أو سعود القحطاني.

وقعت القطيعة الكاملة مع الرياض. لكننا وقفنا معها. واعتبرنا أن أسبابها الموجبة محقة ولا بد من معالجتها. ودعوناها الف مرة ومرة إلى إعادة انتاج الحالة السنية. إلى تصويب الواقع القائم. إن كنتم لا تريدون سعد الحريري فلا بأس، لكن من هو بديلكم؟ ما هي خارطة الطريق؟ كيف نحافظ على هذا الوجدان الهائل ضمن أُطره الوطنية الطبيعية، وضمن السياسات الكبرى التي تضبط حركة الساحة وأهلها، من حدود وادي خالد، وصولاً إلى الناقورة، مرورًا بالبقاعين وعرسال.

ترجل سعد الحريري وأعلن اعتكافه العمل السياسي. فماذا أنتم فاعلون؟ جاءت الاجابة في الانتخابات الأخيرة على شاكلة ارتطام وانهيار وفشل كامل وغير مسبوق. وقد عبرت عنه بكل وضوح في مقال سابق، فما كان من السعودية إلا أن سارعت إلى حجب الموقع الذي نُشر فيه، وكأنها تُريد لنا أن نصمت ونبتلع ألسنتنا، بحيث يكون ممنوع علينا أن نسأل أو نستفسر أو نُناقش أو نُصوّب، وما كان سؤالنا يومذاك إلا سؤالاً بديهيًا طبيعيًا، مفاده: هذا سعد الحريري وقد رحل. فماذا فعلتم؟

لا شيء. فعلوا لا شيء. تركونا للذاريات تذرنا كالغبار. لا أفق لنا ولا وزن ولا مرجع ولا كيان ولا مُعين ولا كتف نسند اليه رؤوسنا المتعبة. تُركنا هكذا في العراء. نفترش الأرض ونلتحف السماء. وما إن حطت الانتخابات رحالها، حتى بات الحليم فينا حيرانا.

كل هذا مقبولٌ، رغم مضاضته وفجاجته وهول وقعه وتأثيره، أمام الطامة الكبرى. هناك حيث بدأ فيصل بن فرحان رحلات مكوكية إلى دمشق، كللها بحضور بشار الأسد إلى القمة العربية. هنا تمامًا توقف الكلام. حل الصمت ثقيلاً. تذكرنا جميعًا سعد الحريري. ذاك الرجل الذي عرف قبلنا بكثير أن الأمم تبيع وتشتري، وأننا لا يجب أن نتحول إلى مجرد أدوات وضيعة في معارك الآخرين. حاول أن يُخبرنا فلم نسمع. حاول أن يحذرنا فلم نتعظ. جاهد في تكرار سمفونيته بلا انقطاع، لكننا آثرنا أن نصم آذاننا ونغمض عيوننا، غير مُصدقين أن الأمير الشجاع، فتى العروبة الأغر، قد يرمينا كما يرمي المدخنون أعقاب سجائرهم.

هو اعتذار متأخر، لكنه مستحق. هو انصاف متأخر، لكنه مستحق. اختلفنا معك يا دولة الرئيس في أمور لا تنتهي. تصارعنا. اشتبكنا. تناحرنا. لكننا نريدك أن تعلم أننا وصلنا في النهاية إلى حيث أنت، لكننا وصلنا متأخرين.

أحسبُ أننا سنعود ذات يوم ونلتقي. إلى اللقاء.

 

ليبانون ديبايت” – قاسم يوسف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi