الخدمات الاعلامية

العقل المعارض “المريض”

كتب (عامر أرناؤوط)

لعله في مقاربتنا لمصطلح “معارضة”،فإننا نتحدث حسب المفاهيم والقيم الديمقراطية، عن البنت أو الابن الشرعي، للنظام المناوئ له والمعارض، وفق برنامج سياسي واجتماعي، محدد يخوض على أساسه، غمار المواجهة مع السلطة، ليحتكما أخيراً للشعب مصدر السلطات، ليقرر أيهما يستحق منحة الوكالة، عبر انتخاباتٍ يفترض أن تتسم بالنزاهة والعدالة، وتكافؤ الفرص وبالحرية التامة، بيئةً واقتراعاً.

لكن لو أضفنا كلمة لبنانية لمعارضة، لتصبح “المعارضة اللبنانية“، فنكون قد دخلنا عالماً من الدهاليز، والديماغوجية الفكرية، والتناقض في تحديد المفاهيم والعناوين.

فنجد مثلاً، أن أكثرية نيابية صارت معارِضة، وأن وزيراً يصرح على باب مجلس الوزراء مستخدماً عبارة، “على الحكومة أن تفعل”، وكأنه خارجها.

كما نجد أن هناك، من حاز ثلثاً معطلاً لا ليحكم، إنما فقط ليعطل ما يراه غير مناسبٍ له في الحكم، وهو داخل منظومتها، ونجد ونجد…..

لكن أبرز ما في الديماغوجية اللبنانية، مصطلح “الديمقراطية التوافقية”،وكأنك أمام جملة يراد فهمها تقول “الإيمان الكفري”.

طبعاً، كل ذلك ما كان ليسود في لبنان، لولا أن مصدر هذا الكلام الأساسي، يعاني ما يعانيه من فشل وغياب للرؤية السلطوية، والابتعاد عن أدبيات الحكم السياسي الرشيد.

فكيف بفئات، تريد أن تحكم، وليس لها في عقلها، ولا ذاكرتها التاريخيين، أيُّ بُعدٍ للحكم والحاكمية والسلطة، فهم أدمنوا لعبة الهروب، والمُضطّهد الملاحق، حتى بات الحكم عندهم، هو “حكم معارض”، وصاروا يتقنون قول “لا نريد”، ولا يقدرون على البوح، بما يريدون ويرغبون في أدائه.

ولعل التاريخ القريب لقرنائهم، في “المعارضة الحكمية”، تؤكد الحال الذي نحياه اليوم، في لبنان.

ففي مطلع ثورة الرئيس جمال عبد الناصر،وتحت ضغوط اليسار المندفع، ألغى الإقطاع الزراعي، وصادر أراضي المالكين، وقام بتوزيعها على الفلاحين، وافتتح مصرفاً زراعياً، أقرضهم ليقوموا بالزراعة.

وبالفعل تم ذلك، وخرجت المحاصيل وكُدست، لكنها لم تُبع لعجز الفلاح، وجهله بأمور التجارة، والبيع والشراء، وهي كانت من واجبات الإقطاعي الكبير، الذي ألغاه عبد الناصر، ففشلت التجربة، وتظاهر الفلاحون أمام قصر الرئيس عبد الناصر، يحملون بأيديهم صكوك الملكية، طالبين منه إرجاعهم فلاحين عند “الآغا”، وهذا بالفعل ما حدث لاحقاً”.

المثل الثاني، أتى من المغرب العربي، أثناء ثورة الجياع، التي اجتاحت المغرب في عهد الحسن الأول، جد الملك الحالي، الذي حكم البلاد المغربية، برهبة أنه من الأسرة العلوية الطاهرة.

حتى وصل الثوار إلى باب القصر، ونصح أقرب المقربين الملك بالهروب، لأنه قد يقتل خصوصاً أن الجيش، كان قد وقف مع الثوار آنذاك، فما كان من هذا الملك “العارف”، بمعارضة شعبه، والمراهن على عنصر “القداسة”، المعطل للتفكير في كثير من الأحيان، إلا أن خرج منفرداً في مواجهة الناس الثائرين، صارخاً “ماذا هناك”؟؟.

فهدأت الجماهير، وأدوا انحناءة السلام للملك، وساد الصمت الرهيب، فاختار منهم قائد الجيش، وأحد أعلام الثورة ليحكوا له مطالبهم، وأجابهم بها عبر أمر الديوان الملكي، أن يهب لكل فرد من الشعب، عطاءً جعل الوفد المعارض معه يهتف، ويأخذ معه الجماهير، من على قصر الملك، وهم يهتفون ويمجدون الملك، في انقلاب للثورة لم يعرف التاريخ له مثيلاً.

آخر أمثلتنا المثيرة للمعارضة المريضة، تأتي من التاريخ حيث امتدت اليد الفارسية، المتمثلة بجيش أبو مسلم الخراساني، الذي وطّأ الأرض، ومهدها لتَسَلّم العباسيين، بعد الانقلاب على حكم الأمويين، بالشراكة مع أبي العباس السفاح، الذي أوتي به خليفة للعباسيين، الذين رفضوا الخلافة الأموية العربية، واستبدلوها بإمام عربي وجيش فارسي “طامع دخيل”.

فما كان من أبي جعفر المنصور الذي جاء بعد أخيه، بعد استقرار حكمه، إلا أن استدعى أبا مسلم الخراساني لديوانه، فأشار حاشية الخراساني عليه، أن لا يذهب قائلين “ما هو إلا بقاتلك”، لكنه أبى إلا تلبية طلب “الإمام”، الذي ركع أمامه بناء لطلبه، فقطع رأسه وعلقه على الرمح، منهياً تلك الشراكة الفارسية في الحكم العباسي.

فمتى يستدعي “أبو جعفرنا اللبناني”“أبا مسلم اللبناني“؟ ليقطع رأسه منهياً هذه الهيمنة الفارسية، المقيتة والبائسة، التي جعلت الحكم في لبنان ممانعة ومعارضة، وأحالت اللبنانيين إلى مجموعة من الجوعى والعاطلين عن العمل، حتى صار تصنيف لبنان في البلدان الأقل مدخولاً سنوياً، وسجل الرقم 185 من أصل  188 دولة، بناءً للوائح صادرة بالأمس عن الأمم المتحدة.

أبو جعفر المنصور، أدرك أن الإمامة لا يمكن أن تكون فارسية، كما أدرك العرب قبلاً أن العروبة أبت أن تَتَفَرْنَسْ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى