مشروعية العلماء: كلمة حق في وجه سلطان جائر

مشروعية العلماء: كلمة حق في وجه سلطان جائر

الجريدة – لبنان
بقلم الدكتور الشيخ ماجد درويش

لا يستطيع أي حاكم، مهما كان حاله، الاستمرار في الحكم دون مشروعية. لذلك فإن المستبد المتفرد بإدارة دفة الحكم يلجأ دائما إلى التسويق لاستبداده من خلال مسوغات يخاطب بها العوام تبريرا لاستبداده وطغيانه في ظنه، مهما كان هذا التبرير .

ففرعون يخاطب قومه مبررا تسلطه وطغيانه وحكمه المطلق لهم بقوله (ما علمت لكم من إله غيري) وبقوله (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). فجعل من نفسه مصدر كل شيء في الدولة، وبالتالي كل ما يصدر عنه هو انعكاس للخير الذي يريده لهم والرشاد الذي يلتمسه لهم. وإنما هو استعبادهم على الحقيقة واستذلالهم وخضوعهم المطلق لأهوائه وشهواته جاعلا من كل ذلك دينا وعقيدة.

وفي تاريخنا كان المستبدون غالبا ما يلجأون إلى الدين ليستمدوا من خلاله مشروعية استبدادهم الذي لا يتوافق مع مجريات الشرع ومقتضى الشورى والعدل، محرفين الكلم عن مواضعه، وواضعين مسائل العقيدة في غير موضعها، تأثيرا على العوام، وإسكاتا لصوت المعارضين، مصورين معارضتهم أنها معارضة للإرادة الإلهية، كما فعل أبو جعفر المنصور في خطبته الشهيرة في مكة، حيث خاطب الناس مبررا حكمه واستبداده بقوله:

“أيُّها الناسُ، إنما أنا سلطانُ اللهِ في أرضِه، أسوسُكم بتوفيقِه وتسديدِه وتأييدِه، وحارسُه على مالِه أَعْمَلُ فيه بمشيئتِهِ وإرادتِهِ وأُعْطِيه بإذنِهِ، فقد جعلني اللهُ عليه قُفْلاً إِنْ شاءَ أَنْ يَفْتَحَنِي فَتَحَنِي؛ لإعطائِكم وَقَسْمِ أرزاقِكم، وإِنْ شاءَ أَنْ يُقْفِلَنِي عليها أَقْفَلَنِي فارْغَبُوا إلى اللهِ، وَسَلُوه في هذا اليومِ الشريفِ الذي وَهَبَ لكم مِن فَضْلِهِ ما أَعْلَمَكم به إذ يقولُ { اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممْتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا } أَنْ يُوَفِّقَنِي للرَّشادِ والصّوابِ، وأَنْ يُلْهِمَنِي الرَّأفةَ بكم والإحسانَ إليكم.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم”.

ويلاحظ كيف أنه حاول أن يستمد من القدرة الإلهية مشروعية سلطانه، مرجعا الأمر إلى إرادة الله تعالى، وكأن احدا من الناس يعرف إرادة الله تعالى في خلقه والتي هي فرع عن علمه سبحانه، والأصل أن يلتزم الحاكم شرع الله تعالى الذي يأمر بالشورى وبالعدل وعدم الظلم، ويأمر بحفظ الدماء والأعراض والأموال، وهو ما لم يراعه المنصور في تتبعه لخصومه وقتلهم ومصادرة أموالهم، وأخباره معروفة حتى وقف له الأئمة: أبو حنيفة ومالك والثوري. ومن يقرأ تراجمهم يعرف كيف لم يُقروا بخلافته، ولم يعطوه المشروعية التي كان يطلبها..

ولا يزال المستبدون في بلادنا حتى اليوم يبحثون عن مشروعية ظلمهم واستبدادهم في نصوص الدين، ويعينهم في ذلك حملة للعلم متكسبون ركبوا متن الشريعة للوصول إلى الدنيا، يلوون أعناق النصوص لتوافق هوى الحكام. ووجدوا في نصوص الفقهاء في عدم الخروج على الحكام متمسكا لاستبدادهم، والعلماء إنما أفتوا بذلك عند خوف الفتنة، ولكنهم لم يفتوا بالسكوت عن قول الحق والصدع به من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مفرقين بين ترجيح مصلحة المجتمع بعدم الخروج العسكري، وبين قول كلمة الحق في وجه سلطان جائر، قائدهم في هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله).

هذا الحديث الشريف كاف في الرد على المستبدين في أن الشريعة لا تشهد لهم، وأن الدين بريء مما يتقولونه عليه. وأن الواجب على أرباب العلم قول كلمة الحق والإنكار على المجرمين من الحكام والظالمين، وإلا فالعاقبة وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، وفي الحديث الصحيح (إذا هابت امتي أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منها).

فلترحموا الدين من تحميله أهواءكم.. ولتريحوا البلاد والعباد بترككم لظلمكم وجبروتكم واستبدادكم ..