الخدمات الاعلامية

قصيدة لشاعر فلسطين الاديب الاستاذ مروان الخطيب/” في عينيَّ ألقاهُ” باكورةُ آسيا السَّيد الشِّعريَّة: تَمَزُّقٌ وجدانيٌّ بينَ الأملِ والألم، وبينَ الحُبِّ والرَّحيل

“إن الشُّعراءَ ليسوا طيوراً مهاجرة، والشِّعرَ دونَ التُّربةِ الأم شجرةٌ بلا جذور وطائرٌ دونَ عُش”
-رسول حمزتوف-
***
“أًمشي بين أبياتِ هوميروس و المتنبي و شكسبير .. أَمشي وأَتعثرُ كنادلٍ مُتدرِّبٍ في حفلةٍ مَلكية”
-محمود درويش-

***

الكلامُ على الشِّعرِ محفوفٌ بَمَا يُشبهُ الخَوفَ حَدَّ الرُّهاب. كيفَ لا، وقد تباينتِ الآراءُ في تحديدِ مَاهيةِ الشِّعرِ، فلمْ يكنْ هناكَ إجماعٌ على تعريفِ هذا المُستعصي على إطارٍ واحدٍ يحيا ويَموتُ بينَ درفتيه!.
ولم تَكنْ في المقامِ نفسِهِ رُؤيا واحدةٌ يقولُ بها الشُّعراءُ والنُّقادُ، ونُحْكَمُ بها، ونحن نتحدَّثُ عن الشِّعرِ في حدودِ صيرورتِهِ العاليةِ الشَّجيَّة، بل الذي نقرأه هنا وهناك، يؤكد لنا تلك الفسحةَ المتباينةَ في تحديدِ معالم الهُويَّة الرَّاقية لهذا الفنِّ الرَّفيع، ولكن ما يُمكنُ الانطلاقُ منه للكلامِ عليه، لرُبَّما كان صدقَ التَّجربةِ الوجدانيةِ السَّابقةِ لولادةِ القصيد.
كانَ لا بُدَّ من هذا القول، قبلَ أن نغوصَ في الحديثِ حولَ ديوان(في عينيَّ ألقاهُ)، باكورةِ الشَّاعرة آسيا السَّيد، والذي صدرَ في بيروت، عن مركز زاوية رؤية الثقافية في العام 2021م، في حُلَّةٍ من القطع الوسط، تَقعُ في مئةٍ وثماني وخمسين صفحة ضامَّةً بينَ دَفَّتيها خمساً وخمسينَ قصيدةً مُتوزِّعةً بين الشِّعرِ التقليديِّ العموديِّ وبينَ شعر التفعيلة.
في قصيدة(قصة قصيرة)، تبرعُ شاعرتُنا آسيا في تنبيهِ جُملتنا العصبيَّةِ، حَدَّ استحضارِ المَشهدِ بكُلِّ تفاصيلِهِ الزَّمنيَّةِ والمَشاعريَّة، وحَدَّ الانزراعِ في حواريَّتها مع أبيها، حيثُ أُعجبتْ الطفلةُ بعقدٍ ذهبيٍّ في سوقِ الصَّاغةِ فطلبتْ من أبيها أن يُلبيَ رغبتَها باقتنائه، لكنَّ الظُّروفَ المَاديَّةَ كانتْ قاسيةً، ما جعلَ الوالدَ يقترحُ على صغيرتِهِ بأنْ تدَّخرَ من مصروفِها اليوميِّ، ما يُمَكِّنُ ذاتَ يوم قابلٍ من شراءِ العقد واقتنائه. وهذا ما حصل. وفي التَّفصيلِ المُستوحى من القصيدة( قصة قصيرة)، والتي أخذتْ إيقاعَها الغنائيَّ من بحر المُتدارك، نشتمُّ عبقَ الأُبوَّةِ الحنون:
“ذهبا للسُّوقِ على عَجَلٍ/ واختارتْ عقداً تعشقُهُ/ لكنْ..لمْ تكفِ اللَّيراتْ!/ فابتسمَ الوالدُ طمأنَها../ أخرجَ من جيبٍ ما يكفي/ ليُحقِّقَ حُلمَ جميلتِهِ/ ألبسها العِقدَ برقبتِها/ فاختالتْ مثلَ أميراتْ”ص19-20.
وهنا، نقفُ على مهارةٍ تربويَّةٍ أدَّاها بفعلِ خبيرٍ العم غازي والدُ الشَّاعرة، حينَ طلبَ من صغيرتِهِ أنْ تدَّخرَ من مصروفِها اليوميِّ لشراءِ العقد!. والحقيقة أنَّهُ كانَ ينتظرُ تحسُّنَ واقعِهِ الماديِّ كي ينبريَ إلى تلبيةِ رغبةِ صغيرتِهِ بشراءِ العقدِ الذَّهبيِّ لها، لكنَّهُ قد زرعَ في قلبِ ورُوعِ ابنتِهِ مفهوماً تربويَّاً مفادُهُ: إنْ أنتِ أردتِ اقتناءَ شيء، فما عليكِ إلَّا أن تسعي إلى تلك السَّبيلِ بكَدٍّ واجتهاد!.
وشاعرتُنا التي ألحَّتْ كثيراً في ذكر أبيها في قصائدَ عديدةٍ من الدِّيوان، في سِياقِ الوَفاءِ لمَنْ كان له الفضلُ الأوَّلُ في رعايتِها، لم تنسَ فلسطينَ والقُدس، بل نراها تحملُنا على جَناحِ الحَنينِ إلى الوطنِ السَّليبِ، فتثورُ مشاعرُنا في الصُّدور، وتُسْتَفَزُّ العَبَراتُ في المآقي والجُفُون، بعدما استطالَ الغيابُ حائلاً بيننا وبين الأخضرِ الفَينَان والماءِ النَّديانِ الرَّيانِ في رُبُوع عكَّا، وحيفا، ويافا، وصفد والناصرة والكرمل، فنسمعُها تقولُ والبُحَّةُ تسكنُ حَنجرتَها في قصيدةِ (طالَ الغياب):
” يا موطني طالَ الغيابُ وها أنا
عُمُري يمرُّ وتنقضي أزماني
لا زلتُ أحلمُ باللقاءِ وأرتجي
يَوماً أجولُ بِسِحرِكَ الفتَّانِ
وأعانقُ الزَّيتونَ والغارَ الذي
يأبى انحناءَ الجَذعِ للعُدوانِ” ص31-32.
لقد أحسنت شاعرتُنا بذكرها الزَّيتون والغار، حيثُ يُعيدُنا الأوَّلُ إلى قسمِ الله تعالى بالتِّينِ والزَّيتون، في سورة(التين) من القرآن الكريم، ما أضفى على مُفردةِ الزَّيتونَ أجواءَ القداسةِ المفضيةِ إلى الأمانِ والأمل والاطمئنان بأنَّ زمانَ الانتصارِ آتٍ، وهذا ما أكدَّهُ استخدامُها مفردة الغار، التي تحملُ في موروثنا الاجتماعيِّ رمزيِّةَ الانتصارِ والفخر، وبهذا أمَّنَتْ لنفسِها إواليَّةً دفاعيَّةً، أبعدتْها عن هُجاسِ تقدُّمِ الزَّمنِ في ظلِّ القيدِ المرير والاحتلال العَتُوم…!.
وفي قصيدةِ (مَنْ للقدس؟)، تحملنا شاعرتُنا آسيا السَّيد إلى أجواءِ الأبطالِ الأفذاذ، الذين يُضحُّون بدمائهم رَخصيةً في مواجهة المحتلِّ الغاصب، وصولاً إلى لحظةِ الانتصار المنتظرِ، وإخراجِهِ من الأرضِ السَّليبة.
تقول: ” دربَ الشَّهادةِ ساروها وما وهنوا
فِدىً لقُدسي، لطُهرِ الأنبيا فيها
والماجداتُ لَكَمْ رابطنَ من زمنٍ
كيما يَصُنَّ دياراً من أعاديها
طوبى لأرضٍ رجالُ الله تعشقُها
رُغمَ النَّوائبِ ربُّ الكونِ حاميها” ص27-28.
ولم تنسَ بنتُ السُّلالةِ المُباركةِ أن تشيرَ إلى دور نساء القدس الماجدات، أولئك المرابطات في المسجد الأقصى، واللواتي يقفنَ سدَّاً منيعاً أمامَ قطعانِ المستوطنين الغاصبين الذين يريدون سوءاً ببيت الله الثاني الذي وُضعَ في الأرضِ لعبادةِ الله تعالى، والذي أسرى إليه الرسول مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وعرجَ منه إلى السَّماء في رحلةِ الإسراء والمعراج.
وإذا قُدِّرَ لنا أنْ نُطِلَّ على شاعرتِنا وقلبِها المَكويِّ من جِمارِ الحُبِّ، فإنَّ قصيدةَ( حُبِّي بأكفانِك)، تُعتَبَرُ شاهِداً على وجعَ قلبِها النَّديِّ، من أمواجِ الغضبِ العَاتيةِ التي تستوطنُ قلبَ مَنْ تعلَّقَتْهُ، ما أذبلَ ذاكَ الحُبَّ، وقادَهُ إلى النُّحُولِ والتَّلاشي المزعوم!.
تقول: ” وهبتُ الحُبَّ من قلبي/ أزاهيراً لبُستانِكْ/ وأعلنتُ انتماءاتِي/ إلى واحاتِ أوطانِكْ/ ولكنْ خانَنِي زمني/ وتهتُ بِزَيفِ أزمانِكْ/ فحينَ ملكتَ أشواقي/ رميتَ بها لطُوفانِكْ/…تركتَ حُصُونَ مملكتي/ رهينةَ موجِ بُركانِكْ/ فصدَّعَها ومزَّقها/ وشوَّهَ نقشَ ألوانِكْ/ فلو أنَّ الزمانَ يعو/ دُ لنْ أدنو لسُلطانِكْ/ هواكَ انهالَ من قلبي/ وذا حُبِّي بأكفانِكْ” ص39-40.
ها هي ذي شاعرتُنا تعلنُ بالفمِ المَلآن، أن حُبَّها ذاكَ الشخص، قد تلاشى وانتهى من نبضها ووتينِها!، وهذا يقودُنا إلى ما قالَهُ د.ه لورانس الذي ” يرى أنَّ العلاقةَ الناجحةَ بينَ الرَّجلِ والمرأة، هي التي تحققُ قدراً معيَّناً من التَّوازنِ بينَ الإرادتين، بحيثُ يحتفظُ كلُّ طرفٍ بحظهِ من الاستقلال”، كما أوردَ ذلك الدكتور الشَّاعر والباحث خريستو نجم في الصفحة 289، من كتابه( النَّرجسية في أدب نزار قباني ).
وقريباً مما قالهُ الرِّوائيُّ والأديبُ لورنس، نقولُ بأنَّ ضمانَ مسيرةِ الحُبِّ بينَ الرَّجلِ والمرأة يتطلَّبُ بدايةً، وفي كلِّ آنٍ وحينٍ، وجودَ وثباتَ قيمة الاحترام المُتبادلِ بين الطَّرفين، مع وجودِ تشاركيَّةٍ رفيعةٍ في منظومةِ الأفكارِ والمفاهيم عن الحياة، ما يُكرِّسُ الاستمرارَ المُشتركَ بين القُطبينِ بعيداً عن الذُّبولِ والنُّحولِ والتَّلاشي!.
إنَّ ما قالتْه شاعرتُنا في القصيدةِ الآنفةِ الذَّكر، يؤكِّدُ ويشيرُ بشَكلٍ مُسْتَتِرٍ إلى وجود التَّجاذبِ الوجداني تجاه من هو حبيب، ويجعلنا نتساءلُ: أحقاً صارَ الحبيبُ في خبرِ كان، أم إنَّهُ ما زال يستوطنُ حيِّزاً من الفؤاد، وكثيراً من الذاكرة؟!.
وبالعودة إلى ما قالته في القصيدة، ولا سيما:
“تركتَ حُصونَ مملكتِي/ رهينةَ مَوجِ بُركانكْ/ فصدَّعَها ومزَّقها/ وشوَّهَ نقشَ ألوانِكْ”. فالملاحظُ المَرئي أن مَوجَ بُركانِ الحبيبِ، قد صَدَّعَ ولم يُدمِّرْ، ومزَّقَ ولم يُبَدِّدْ، وشوَّهَ ولمْ يُزِلْ، وبقي نقشُهُ قائماً ولم يندثرْ، فالنقشُ يستعصي على الإزالةِ العابرةِ، ويحتاجُ إلى فعلٍ تدميريٍّ حتى يزول!.
نعم، لمْ يَمتْ الحُبُّ في قلبِ شاعرتِنا، لكنَّ صرختَها المُدوِّيةَ تُعَبِّرُ عن جُرحٍ نَرجسيٍّ قد نالَ منها، ما أوقعَها في حَبائل التَّمزُّقِ الوجدانيِّ بين حُبِّهِ والرَّحيلِ عنه…!.
وفي قصيدةِ ( لقاؤنا)، تؤكِّدُ لنا شَاعرتُنا آسيا السَّيد ما حَاولتْ نفيَهُ في قصيدةِ(حبِّي بأكفانك)، فتبرزُ مناجاتُها الحبيبَ في أجواءٍ من النُّكوصِ إلى المَرحلةِ الجنينيَّة، حيثُ الأوقيانونسيَّةُ بلا حُدود، والذَّوبانيَّةُ بلا قُيود…!.
تقول: ” إنِّي أحنُّ لليلةٍ/ في كنفِ حُلمٍ ثائرٍ/ يُؤوي الفُؤادَ لحِضنِهِ/ ويُسافرانِ لعالمٍ دونَ الزَّمانِ/ وخلفَ المَكانِ/ إلى دُنىً رسمَ الخيالُ دُروبَها/ وتزيَّنتْ أرجاؤها برِحابِهِ…/ فمتى يحينُ لقاؤنا/ من بعد عمرٍ قدْ مضى؟/ فأنا فؤادي/ لمْ يعُدْ يقوى/ على حَرِّ اشتياقٍ/ لم يزلْ يبكي/ على أعتابِهِ..!” ص148.
إنَّهُ العِشْقُ الذي يتلاشى فيه الحَبيبُ بحبيبِهِ فيغدوان واحداً لا يقبلُ الانقسام، في نَمطٍ وتَجَلٍّ صُوفيٍّ نِيرفَانيٍّ، لا ضفافَ له، وخارجٍ عن مُفرداتِ لغاتِ الأرضِ، إلى لغةٍ سَماويِّةٍ رفيعةٍ وغيرِ معهودةٍ لنا من ذي قبل.
هذا العشقُ الذي تكلَّمتْ عليه شاعرتُنا، هو من سُلالةِ ذاك العشقِ الذي عاشَهُ مجنونُ ليلى في أدبِ عبد الرحمن جامي، وهو قدْ بلغَ مرتبةً قد تجاوزتِ المحسوساتِ والمكانَ والزَّمانَ إلى المَاوراء، فاستحالَ نُوراً مُعَطَّراً بِبَخُورِ نُور، ومدىً مفتوحاً على الأسنى والأزكى والأبهى…، وإذَّاكَ سبحتْ المعشوقةُ والعاشقُ معاً في روحٍ واحد وجسدٍ واحد، ويا لها من سباحة، بل يا له من عشق…!.
وبعدُ…ماذا عسانا نَقُولُ، سِوى أن نباركَ لابنةِ المُلتقى الأدبيِّ الثقافيِّ الفلسطينيِّ الشَّاعرة آسيا السَّيد بهذا المولود النَّبُوضِ العَطُور، والذي أترعَ كأسنا عشقاً للقدسِ والأقصى فوقَ العشقِ الذي لهما من قَبلُ، وتركنا سَحابةً مِنْ لازورد، تشكَّلتْ في حِضنِ العِشْقِ المَلكوتيِّ، وتنزَّلتْ إلى الطُّورِ والكرملِ والجرمقِ، ثُمَّ هَتَلتْ في صُدورِنا وقلوبنا عشقاً آخرَ، لا يَفنَى، ولا يَموت…!.

مَروان مُحَمَّد الخطيب
10/3/2023م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi