اخبار لبنان

القطاع الإستشفائي بخطر والمواطن مهدّد بالموت على أبواب المستشفيات

كأحجار الدومينو تتهاوى القطاعات الإقتصادية في لبنان واحدة تلو الأخرى، ويمضي المواطن يومه متنقّلاً من طابور ذل إلى آخر. فمن محطات الوقود التي ينتظر فيها ساعات مطوّلة لتعبئة أقل ما صرفه وقت الإنتظار، إلى الأفران المزدحمة والصيدليات الفارغة من الأدوية، ناهيك عن الارتفاع الجنوني في الأسعار في ظل إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار بسرعة قياسية، والتي تدمّر بطريقها ما تبقّى من الطبقة الوسطى وتزيد الفقراء فقراً.

وفي ظل هذا الصراع اليومي الذي يعيشه المواطن اللبناني، تأتي صرخة القطاع الإستشفائي الذي عانى كثيراً في السنوات الأخيرة حتى وصل اليوم إلى الحضيض، خاصة في أزمة كورونا التي إجتاحت بلدان العالم وألقت بثقلها على المستشفيات في لبنان، حيث فاق عدد الإصابات القدرة الإستيعابية لها، ولقدراتها البشرية الغير مجهّزة بعددها والتي استُنزفت بدافع الهجرة أكثر فأكثر مع تدهور سعر صرف الليرة وبالتالي فقدان أجور العاملين في هذا القطاع قيمتها كحال الشعب اللبناني بأكمله.

فبدل أن تؤمن الدولة للمواطن حياة كريمة ورعاية صحية، ترمي به أمام أبواب المستشفيات، يتأرجح بين الحياة والموت، والسبب عدم قدرة الأخيرة على إستقباله نظراً  لفقدان المستلزمات الطبية، وتكلفة الإستشفاء العالية التي لا يستطيع تحمّلها. فهل يكون مصير المواطن إذاً الموت على أبواب المستشفيات، ويصبح الإستشفاء ميزة للأغنياء؟

سيدة في الثمانين من عمرها وقعت داخل منزلها منذ حوالي الشهر، ولم تعد قادرة على التحرك، اتصلت ابنتها مباشرة بالصليب الأحمر لنقلها إلى أقرب مستشفى، لكنه أجاب بأنه لا يمكن نقلها قبل أن يتم حجز مكانا” لها في المستشفى.

وعلى الفور اتصلت ابنتها بالمستشفيات القريبة وهنا كانت الصدمة. لا يوجد غرفة شاغرة للحالات الطارئة في مستشفى سان لويس ولا حتى سيدة لبنان. مرت ساعة والسيدة المسنّة لا تزال أرضاً وبعد عدة إتصالات نقلت إلى مستشفى الKMC  وتم إجراء الفحوصات اللازمة لها حيث تبيّن أنها تعاني من كسرٍ في وركها، ما يستلزم إجراء عملية على الفور وتركيب Prothèse، والتي تدفع تكلفتها بالدولار أو ما يعادله في السوق السوداء أي ١٦ ألف ليرة للدولار الواحد أنذاك، فتصبح إذاً التكلفة ١٣.٥ مليون ليرة لبنانية، وعلى ذويها تأمين أقله دفعة مسبقة تساوي ٩ ملايين ليرة لبنانية.

ولكن من أين يأتي أبناؤها بهكذا مبلغ بصورة مفاجئة وفي وقت متأخر من ليلة سبت؟ وبعد عدة إتصالات مع الأقارب في لبنان والمهجر، تأمن المبلغ. وبعد العملية تبلّغت العائلة من قسم المحاسبة أن تكلفة العملية إرتفعت نظراً لتدهور سعر صرف الليرة بطريقة سريعة، وعليه أصبحت الفاتورة ٢٠ مليون ليرة مع إحتساب تغطية الضمان، وبالتالي لا يمكن خروج المريضة من المستشفى قبل تسديد المبلغ كاملاً.

في لبنان، تعتبر هذه السيدة محظوظة لأن أخاها المغترب دفع تكلفة إستشفائها، ولكن ماذا يفعل المواطن الغير قادر أصلاً على تأمين أدنى إحتياجاته أن يدفع تكلفة إستشفائه إن لم يجد من يسانده؟ خاصة أن المستلزمات الطبية كلها على سعر الدولار في الوقت الذي لا يزال الموظف يتقاضى الحد الأدنى للأجور وعلى سعر صرف ١٥٠٠ في أغلب الحالات.

حالة ثانية نشرتها جمعية Medonations، عبر صفحتها على إنستغرام، التي تقوم بجمع التبرعات لمساعداة المحتاجين، وتعود لرجل يبلغ من العمر ٦١ عاماً، يعاني من تصلّب في شرايين القلب ونشاف في الرأس، دخل العناية الفائقة لتلقّي العلاج. وبعد قضائه ٢٠ يوماً، أبلغت إدارة المستشفى أهل المريض أن كلفة العناية الفائقة هي ٣٠ مليون ليرة وأن مبلغ ٤ ملايين ليرة سيحتسب على كل يوم إضافي له في المستشفى في حال لم تستطع العائلة تسديد الفاتورة لإخراجه.

وأمام هذه الحالة هرع  أهل المريض لطلب المساعدة، حيث تبنّت جمعية Medonations  مساعدته فأنشأت حملة تبرعات مكثفة في غضون يومين فقط لجمع المبلغ، وذلك لعدم الإضطرار على إبقائه أيام إضافية في المستشفى وتراكم المبلغ أكثر فأكثر.

وفي التواصل مع جمعية Medonations  التي أسستها الشابة مارينا الخوند، كشفت عن عدة حالات إنسانية كارثية غير قادرة على تلقّي العلاج دون دعم الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية.

وأهم هذه الحالات تعود للطفل جوناسن البالغ من العمر سنتين فقط، أصيب بمرض سرطان RMS Rhabdomyosarcoma، عن عمر الثمانية اشهر، وتدهورت حالته كثيراً وتطلّبت المزيد من الفحوصات والعلاجات حتى بات الوالد المعيل الوحيد للعائلة غير قادر على تغطية نفقات العلاج الباهظة، خاصة وأن الضمان الإجتماعي لا يتكفّل بأغلبية مراحل العلاج، بالإضافة إلى إبرة Neupogen التي يحتاج إليها يوميّاً وسعرها ٩٦ ألف ليرة لبنانية حينها.

فتمكنت الجمعية بفضل التبرعات من تغطية مراحل عديدة من علاج الطفل حتى اليوم، وأعادت بذلك الأمل إلى أهل المريض بأن طفلهم سيشفى من هذا المرض الخبيث وسيكمل حياته كأي طفل آخر، ذنبه الوحيد أنه ولد في دولة حتى المرض فيها ممنوع.

حال جوناثن كحال المريض الذي احتاج لزرع كلى ورفضت المستشفى استقباله لعدم تأمين المبلغ مسبقا” رغم أستعداده لرهن منزله مقابل اجراء العملية، حيث ناشد رواد التواصل الإجتماعي المعنيين الى التحرك لإنقاذ حياة المريض.
فكلفة الإستشفاء في أغلب الأحيان توازي أضعاف الحد الأدنى لرب العائلة، وبدل أن تؤمن الدولة خدمة الإستشفاء الأساسية لحياة أي مواطن في المجتمع، فهي تُهلك هذا القطاع أكثر فأكثر حتى دمرته ووضعت المواطن في المواجهة المباشرة مع الأطباء والمستشفيات.

وفي المواجهة مع الجهات المعنية من وزارة الصحة الى المستشفيات، نقابة الأطباء، نقابة المستشفيات الخاصة، والضمان الإجتماعي، تبين أنهم ينؤن بأنفسهم ويتقاذفون المسؤوليات على حساب المرضى، كما يتزرعون بالوضع الإقتصادي والسياسي لتبرير موقفهم. فهل يعقل أن يتوسل المريض أمام أبواب المستشفيات فقط لإنقاذ حياته، حتى بات مستعدّاً لرهن كل جنى عمره كي يعود الى عائلته؟

في إتصال مع المدير الطبي في مستشفى المعونات الدكتور زياد الخوري، أكد أن مستشفى المعونات لم ترفض أي مريض خاصة إذا كان في حالة حرجة، ولكن في حال كان قد قصد مستشفى آخر وتم إرساله إلى هنا لأن الأخيرة لا تريد إستقباله متزرّعة بحجج عدّة، تفضّل المستشفى أيضاً عدم استقباله لإفساح المجال أمام مرضاها لتلقي العلاج الكافي خاصة في ظل الشح في المستلزمات. فيقع إذاً المواطن في هذه الحالة ضحية تقاذف المستشفيات له.

وأشار أن لا قرارا” حتّى الساعة في رفع التكلفة، ولكن المستشفيات تعمل من اللحم الحيّ وبالتالي ترفع التكلفة لتأمين حقها وقدرتها على الإستمرار في العمل. فلا يمكن للمستشفى معالجة المرضى مجّاناً، وبالنتيجة هناك فاتورة يجب دفعها و “الله يساعد المريض”.

وبالحديث مع مديرة قسم الضمان في جبيل السيدة ريتا أبو العز، أوضحت أن الفارق الباهظ الذي يدفعه المريض ناتج عن فرق سعر صرف الدولار، فالضمان يسدد الفواتير على سعر صرف  3900 ويغطي 90%  من الفاتورة ويدفع المريض 10% فقط، ولكن هذه النسبة توازي في بعض الأحيان مبلغاً كبيراً نظراً لفرق الدولار، بالاضافة الى المستلزمات الطبية التي قد يحتاجها المريض أثناء تواجوده في المستشفى.

كما أكدت ان الضّمان يعاني جداً من نقص في موارده المالية، حيث الدولة متقاعسة عن دفع مستحقاتها له بالاضافة الى عدم دفع بعض المواطنين ما يتوجب عليهم. لكن الضمان يسعى دائماً الى دفع سلفات للمستشفيات من المبلغ المتراكم كي تستمر في استقبال المرضى.

وانطلاقاً من مبدأ “الحجرة بتسند خابية”، أطلقت رابطة كاريتاس لبنان في إطار برنامجها الصّحي وبتمويل من الصندوق الإنساني للبنان، مشروعاً لدعم الّلبنانيين بالرعاية الاستشفائيّة، بحيث تساهم في تغطية نسبة من الفرق المتبقّي من النفقات الاستشفائية، وذلك بعد تغطية وزارة الصّحة العامة لا جهة اخرى سواها، خلال شهر تموز 2021 فقط.

وبعد نشر الإعلان عن الحملة على مواقع التواصل الاجتماعي، إنهالت الاتصالات على الرّقم المخصص للمواطنين، والكل ينتظر خشبة الخلاص للنجاة من تراكم المستحقات المالية عليه في المستشفى.

من جهة أخرى، وبعيداً عن صعوبة الاستشفاء من الناحية المادية، هناك خطر آخر يضرب هذا القطاع وهو النّقص الحاد في المستلزمات الطبية وبعض الأدوية والبنج، بالإضافة الى أن بعض المستشفيات غير مجهزة في أقسامها لإستقبال المرضى خاصة في الحالات الطارئة. وهذا سبب أساسي لرفض المريض على أبوابها.
كحالة الطفلة جوري السيد التي ضجت مواقع التواصل الاجتماعي، والتي توفيت بسبب إلتهابات حادّة وعدم توافر الرعاية الصحية الكاملة لها.

وحسب رواية الأهل سبب الوفاة هو النّقص في الدواء الضروري، وتفاقم حالتها من دون توافر سرير في العناية المركزة لها في مستشفى في منطقة مزبود ما استدعى نقلها على عجل، إلّا أن الوقت كان قصيراً ولم تتمكن جوري من الصّمود وفارقت الحياة.

وفي الاطار عينه أوضح نقيب الأطباء شرف ابو شرف أن المشكلة الكبيرة تكمن في عدم وجود مراكز عناية فائقة للأطفال في المستشفيات الجامعية وأسرّة كافية، فضلاً عن ضئآلة الأطباء الذين يقومون بهذا العمل.

أما مستشار وزير الصحة رضا الموسوي أكد في اتصال معه أن الوزارة تراقب المستشفيات وتتخذ الإجراءات اللازمة في حق المستشفى المخالفة، خاصة تلك التي ترفض إستقبال المريض في الحالة الطارئة، أو في حال توفّي المريض على باب المستشفى.
وأشار الى أنّ القدرة الإستيعابيّة للمستشفيات الحكومية محدودة لا يمكنها استقبال كل المرضى خاصة في حالات معينة دقيقة، كما انها تعاني الكثير من المشاكل ونقص في المستلزمات كحال المستشفيات الخاصة.

وأضاف أن ميزانيّة وزارة الصّحة لا تسمح لها بتطوير القطاع، فهي تعمل قدر المستطاع للحفاظ على أركانه والصمود في وجه الأزمة.

أما نقيب أصحاب المستشفيات الخاصّة سليمان هارون صرّح بأن المستشفيات مهددّة بالإقفال جرّاء ما تعانيه من أزمات متتالية، وحذّر من خطورة هذا الأمر على صحّة المرضى، فهناك حالات تعيش على ماكينات الأوكسجين، بالاضافة الى مرضى العناية الفائقة، غسيل الكلى، وغرف العمليات .

وأضاف أن تدهور سعر صرف الّليرة بصورة سريعة ورفع الدعم نهائيّاً في المدى القريب، سيرفع تلقائيّاً الكلفة الاستشفائيّة بشكل مرعب، فكل ارتفاع 1000 ليرة للدولار يرفع تكلفة  500 ليرة وستصبح الطبابة ميزة للأغنياء حيث أن المواطن العادي يلجأ اليها فقط عندما تكون حالاته الصحيّة صعبة ودقيقة جدّاً مما يرفع نسبة الوفاة في هكذا حالات.

وأشار الى أن بعض العمليات يتم تأجيلها بسبب النّقص في أدوية البنج والمستلزمات الطّبية، كي تتمكن المستشفيات من إستعمال الكميّة الضئيلة المتوفرة من المستلزمات للحالات الطارئة التي لا تقبل التأجيل.

وفي اطار الحلول المطروحة، أكد وزير الصّحة السابق علي جواد خليفة أن الدّعم الخارجي ضروري لكنه مشروط بالإصلاحات، الأمر المتعسّر حاليا” في ظل هذا الفراغ الحكومي.
كما أن إقرار الدولار الاستشفائي يساهم في تخفيف سعر كلفة المستلزمات الطبية التي تتبع حاليا” جنون سعر صرف الدولار دون حسيب أو رقيب.
الأمر نفسه أكده نقيب أصحاب شركات التأمين إيلي نسناس لإعتبار أن الشركات تتكبّد خسائر كبيرة بسبب ارتفاع كلفة استشفاء زبائنها نسبة لسعر بوليصة التأمين التي يدفعونها مسبقا”، فيكون بذلك الدولار الاستشفائي جزءاً من الحل.
وللحفاظ على زبائنها ستعمل الشركات على خلق بوليصات تأمين أرخص تقدّم من خلالها خدمات طبية محدودة وبجودة أقل من ناحية المستلزمات التي تغطيها.

إذا”، بعد أن كان لبنان يعتز بكونه مستشفى الشرق الأوسط، وبتمتّعه بخدمة وقدرات توازي المعايير العالمية، حيث كان يشكل بموصفاته عموداً أساسياً للإقتصاد اللبناني ومصدر أمان للمواطنين، تلفظ مستشفياته اليوم أنفاسها الأخيرة، وتخسر كل مقوّمات الصمود، حتّى أصبحت مهدّدة بالإقفال.

فالأزمة الإقتصادية والسياسية التي يمر بها لبنان، ناتجة عن فساد وفشل الدولة المهترئة التي أمعنت في إغراق البلد أكثر فأكثر في الأزمات ودفعته إلى الإرتطام في قعر جهنم حيث الشياطين عجزت حتّى إلى الوصول إلى هناك، وكل ذلك دون العمل جدّياً على وقف الإنهيار ووضع خطة فعّالة للنهوض مجدّداً.

فالتعويل اليوم يبقى على أركان القطاع الصحي لتوحيد جهودهم ووضع خطة إنقاذية لإدارته في الحالات الطبيعية وغير الطبيعية، ليستعيد هذا القطاع عافيته ويتمكن من الصمود في وجه الأزمات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Here you can just take everything you need for efficient promotion and get the job done well. o’tishingiz Surprisingly, this is not the same as the circumstance with Mostbet. agar o’yinchi MostBet in Bangladesh offers a plethora of pre-match picks in over 20 different sports. o’yin boshlanishidan oldin This means you may use the mobile version to safely make deposits and withdrawals. dasturi