حركة الترجمة في التاريخ العربي الإسلامي / بقلم عبد الهادي محيسن
مجلة الشراع 5 أيلول 2021
إن أول مترجم في التاريخ الإسلامي كان زيد بن ثابت الأنصاري الذي تقول المراجع التاريخية أنه كان يكتب الى الملوك ويجيب بحضرة النبي – ص . وكان يترجم للنبي بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية ، تعلم ذلك في المدينة من أهل هذه الألسن خلال تواجدهم فيها .
وكانت أول حركة ترجمة في الإسلام حركة نقل الدواوين وتعريبها في القرن الأول في عهد بني أمية ، وبمبادرة من الحجاج بالنسبة الى الديوان المكتوب بالفارسية ، ومن هشام بن عبد الملك بن مروان بالنسبة الى الديوان المكتوب بالرومية ، وهذا الخليفة هو أول من احتضن الترجمة ورعاها على إختلاف مندرجاتها ومواضيعها .
ومع أن إهتمامه كان يصدرعن اعتبارات عملية خالصة ، فإن اهتمامه الأول لم يتجه الى علوم الطب والكيمياء كشأن من تقدمه في هذا المجال من رعاة الترجمة من الأمويين … بل الى عالم السياسة وفن تدبير المُلك ، وهكذا يذكر التاريخ أن سالم ، كاتب هشام بن عبد الملك نقل له رسائل ” أرسطاليس الى الإسكندر ” كما ويذكر المسعودي أن كتاب سياسات الفرس ، وهو كتاب عظيم يشتمل على علوم كثيرة من علومهم عن أخبار ملوكهم وسياساتهم نقل لهشام من الفارسية الى العربية .
وفي العصر العباسي الأول أرسل أبو جعفر المنصور الى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات ، فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها ، وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله من فلسفة الإعتزال ، فأوفد الرسل الى ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي وبعث المترجمين لذلك فحذقوا في فنونها .
فالرغبة في العلم التي صدرت عن المامون وهو يبني أكبر ورشة للترجمة في الإسلام – عنينا بيت الحكمة – إنما كانت بحسب التعبير الخلدوني ، بما كان ينتحله …..ونحلة المأمون كما نعلم جميعا هي الإعتزال فهو لم ينتحل العقيدة المعتزلية ولم يبوىء أصحابها المناصب العالية في الدولة فحسب ، بل تدخل سلطويا ليجعل منها عقيدة رسمية للدولة .
ولم يقتصر دوره على الإحتضان والتشجيع بل تعداه الى التأليف في الكلام الإعتزالي ، فإبن النديم يصفه بأنه أعلم الخلفاء بالفقه والكلام وينسب إليه رسالة في ” الإسلام والتوحيد ” وثانية في ” حجج مناقب الخلفاء ” وثالثة في ” أعلام النبوة ” ، وكان من أحد الأسباب التي جعلت المأمون يهتم بالفلسفة هو ما يعرف ” بحلم المأمون ” .
وذلك أن المأمون رأى في منامه : كأن رجلا أبيض اللون ، مشربا بالحمرة ، واسع الجبهة مقرون الحاجب ، أجلح الرأس ، أشهل العينين ، حسن الشمائل ، جالس على سريره ، قال المأمون : وكأني بين يديه قد مُلئت له هيبة فقلت من أنت ؟
قال : أنا ارسطاليس … فسررت به وقلت : أيها الحكيم أسألك ؟ قال سل قلت ما الحسن ؟ قال: ما حسن في العقل .. قلت ثم ماذا ؟ ما حسن في الشرع … قلت ثم ماذا ؟ قال ما حسن عند الجمهور .. قلت ثم ماذا ؟ قال ثم لاشيء .
وبديهي أننا أمام حلم مصنوع ولكن إن لم يكن الحلم كاذبا من حيث الواقعة ، فهو صادق من حيث الدلالة فما يميز الإعتزال كعقيدة كلامية ، أنه يقدم العقل في الترتيب على الشرع وكم بالأولى أن يميزه على الجمهور- أي الإجماع ، لأن الفرضية الأساسية التي ينطلق منها هي أن حجة الشرع على قطعيتها لا تستقيم إلاّ بقوة العقل ، فإن حجة العقل أسبق من حجة الشرع … فالشرع بالعقل يعرف .
فحلم المأمون هو وسيلة معتمدة من وسائل الإقناع الجمهوري من حيث أنه أولا: حامل الرؤيا الصادقة وثانيا : لأنه بانتصاره الترتيبي للعقل على الشرع ولكليهما على إجماع الجمهور إنما يكرس النزعة العقلية النخبوية معا للمعتزلة وفي مقدمتهم المأمون نفسه .
لقد كانت حصيلة العملية الثقافية الكبيرة التي قادها المأمون ترجمة كاملة للمنظومة الفلسفية الأفلاطونية الأرسطية المتاحة مخطوطاتها في حينه الى العربية ، فالمنظومة الفلسقية اليونانية أو المكتوبة باليونانية ، كانت تمثل سقف الأشتغال الذاتي للعقل ما قبل الحديث ، وهذا قبل أن يقيد العقل نفسه بنص مقدس …. والحال أن حركة الإعتزال التي انتصر لها المامون كانت تمثل بدورها أعلى سقف لإشتغال العقل في حضارة متمركزة حول نص مقدس شأن الحضارة العربية الإسلامية .
عبد الهادي محيسن …. كاتب وباحث .
